البحر الأحمر ملتقى الاطماع الاستعمارية (78)
منذ النصف الثاني من القرن الرابع الهجري فرض الفاطميون وجودهم البحري واحكموا السيطرة على التجارة الشرقية عبر البحر الأحمر فسرعان ما نشطت الحركة التجارية في موانئ البحر الأحمر
وخاصة الموانئ المصرية المطلة على هذا البحر لاسيما ميناء القلزم نشاطاً لم تشهده من قبل حتى سمي البحر الأحمر ببحر القلزم في ذلك العصر وظلت القلزم تمارس دورها التجاري كميناء تجارية هامة في اقصى الطرف الشمالي من خليج السويس على ساحل بحر اليمن في اقصى جهة مصر فكانت تحمل منها الحمولات إلى الحجاز واليمن وعمل الخلفاء الفاطميون من جانبهم على دعم النشاط التجاري في هذا الثغر وغيره من ثغور مصر المطلة على البحر الأحمر ، ففي رمضان من سنة 387هجرية سامح الحاكم بأمر الله اهل السفن والتجار مما كان يؤخذ منهم من مكوس (ضرائب) تشجيعاً للتجارة .
ازدهار التجارة الشرقية في عهد الدولة الصليحية في اليمن والفاطميين بمصر.. خصت الدولة الصليحية التي كانت تتبع الفاطميين روحياً تجارة الكارم عبر البحر بجانب كبير من عنايتها وكان لذلك أعظم الأثر فيما أحرزته اليمن من تقدم اقتصادي وازدهار حضاري في هذا العصر وهي حقيقة تعبر عنها المنشآت التي اقامتها الدولة الصليحية وتشهد بها ما كانت تحتويه خزائنهم من الجواهر والطيب والطرائف والكسوات والفرش والأمتعة والسلاح والتوابل والإدام وغيرها من الثروات تتجاوز كل تقدير في الحسبان وقد نوه بها المقريزي في الخطط والرحالة الفارسي ناصر خسرو في رحلته وغيرهم من المؤرخين واكتسبت موانئ البحر الأحمر شهرة تجارية واسعة النطاق طغت على موانئ الخليج الفارسي بعد ان تحولت تجارة هذا الخليج للبحر الأحمر وأصبحت عدن التي تشحن منها واليها السفن ميناء ومحطة رئيسية لكل تجارة المحيط الهندي وأهم قاعدة بحرية ترد اليها وتصد ر منها السفن القادمة من البحر الأحمر والحبشة وزنجبار والهند والصين والمنافس العتيد لجزيرة قيس في خليج فارس التي تبوأت مكان الصدارة في تجارة الخليج بعد سيراف مما حمل حاكم قيس على الإقدام على مهاجمة ثغر عدن في سنة 530هجري (1135ميلادي) وإحكام الحصار عليها شهراً لإرغام تجار الهند على التحول إلى جزيرته ولكن هذا الحصار انتهى بفشل ذريع بعد أن تعرض أسطول قيس للهزيمة في مياه عدن وارتفعت مكانة عدن التجارية بعد هذا الحادث حتى عرفت بحق بدهليز الصين , وقد فطن الفاطميون تحقيقاً لهدفهم إلى ضرورة إحكام سيطرتهم على البحر الأحمر عن طريق بسط سلطانهم على بلاد الحجاز واليمن وفي سبيل هذا الهدف دخلوا في صراع ضار مع العباسيين ومع أشراف مكة ومع ملوك اليمن واستغلوا حالة الضعف والإعياء التي آلت إليها الخلافة العباسية واقدام القرامطة على انتزاع الحجر الاسود من الكعبة في كسب قلوب اشراف الحجاز بفضل الأموال التي كان يبعث بها الخلفاء الفاطميون إليهم , والخلع التي كانوا يرسلونها إلى أمير مكة مرتين في العام الواحد.
وبالنسبة لليمن كان قيام الدولة الصليحية فاتحة خير للدولة الفاطمية فقد أصبح اليمن بفضل ارتباط الصليحيين بالدعوة الفاطمية تابعاً تبعية روحية للدولة الفاطمية في مصر وتوثقت العلاقات التجارية بين مصر واليمن كما اسلفنا سابقاً وقد أفاد الفاطميون من الولاء السياسي والمذهبي الذي كان يبذله بنو صليح في اليمن لهم في تأمين تجارتهم في البحر الأحمر, وبلغ هذا الولاء للفاطميين ذروته في عهد أبي كامل علي بن أحمد الصليحي (439-473هجرية) الذي يرجع إليه الفضل في نشر الدعوة الفاطمية في سائر انحاء اليمن منذ أن قضى على بقايا دولة بني زياد الموالية للعباسيين وارتبطت مصر في عهد الخليفة الفاطمي المستنصر بالله واليمن في عهد علي الصليحي بعلاقات بلغت غاية في الود وتتمثل في الهدية التي أرسلها علي بن أحمد الصليحي إلى المنتصر بالله في سنة 454هجرية وتضم كميات كبيرة من التحف الذهبية والفضية والسلاح والوشى والمسك والعنبر والكافور والعود الهندي حملها اليه رسول من اقاربه يدعى أحمد بن محمد الصليحي وبعد ذلك بأربع سنوات أرسل الصليحي وفداً إلى مصر يمهد لزيارته للقاهرة ولكنه قتل في مكة أثناء رحلته إلى مصر وكان اسم المستنصر بالله يدعى له على المنابر في اليمن ثم الصليحي في عموم اليمن.