من تحت الركام تُعاد صياغة القوة وتتغير معادلات الردع
بقلم / محمد الصالحي
وفقاً لمعايير موازين القوى التقليدية، رأى كثيرون أن عملية طوفان الأقصى التي نفّذتها المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر 2023م كانت مغامرة غير محسوبة، إذ بدت في ظاهرها تحدياً يفوق قدرات فصيل محاصر في قطاع ضيق أمام جيش يملك أحدث منظومات التسليح في العالم.

غير أن مجريات الأحداث سرعان ما أثبتت أن تلك العملية لم تكن مغامرة بقدر ما كانت نقطة تحول كبرى في مسار الصراع العربي ـ الصهيوني، إذ وجّهت ضربة قاسية إلى المنظومة الأمريكية ـ الإسرائيلية وحلفائها في المنطقة، وأعادت الاعتبار لمنطق الإرادة مقابل منطق القوة، فحققت للمقاومة نصراً استراتيجياً بكل المقاييس، وكرّست حضور محور الجهاد والمقاومة كلاعب مؤثر في صياغة معادلات المنطقة.
ففي منطق نظرية الصراع، يُفترض أن كل إنجاز يحققه طرف يُعدّ خسارة للطرف الآخر، وكل إخفاق يُمنى به أحدهما يُعدّ مكسباً للمقابل. وانطلاقاً من هذه القاعدة، يمكن القول إن طوفان الأقصى لم يكن مجرد مواجهة عسكرية بين فصيل فلسطيني وجيش الاحتلال، بل كان حدثاً مفصلياً أعاد صياغة موازين القوى في الإقليم، وأظهر عمق التحولات في مراكز الفعل والتأثير بين محور المقاومة والكيان الإسرائيلي ومن خلفه الولايات المتحدة.
منذ السابع من أكتوبر، تهاوت أسطورة الجيش الإسرائيلي التي بُنيت لعقود على قاعدة الردع والتفوق الأمني، فالمقاومة المحاصرة منذ أكثر من خمسة عشر عاماً استطاعت أن تخترق الحدود المحصنة وتضرب العمق الإسرائيلي في عملية نوعية أربكت القيادة العسكرية والسياسية معاً. هذا الاختراق لم يكن عسكرياً فحسب، بل كان رمزياً واستراتيجياً، إذ زعزع ثقة الإسرائيليين بمؤسساتهم الأمنية وكشف هشاشة المنظومات التي طالما وُصفت بأنها لا تُخترق. فإسرائيل التي دخلت الحرب بشعار “القضاء على حماس” وجدت نفسها بعد عامين عاجزة عن تحقيق أي من أهدافها المعلنة: لم تحرر أسراها، ولم تنزع سلاح المقاومة، ولم تُخضع غزة، بل تورطت في مستنقع استنزاف طويل ينهكها نفسياً وسياسياً واقتصادياً.
في المقابل، خرجت المقاومة بمكاسب استراتيجية تجاوزت حدود الميدان. فقد أثبتت قدرتها على الصمود رغم المجازر والإبادة، وفرضت معادلات جديدة عنوانها أن الحرب لم تعد محصورة في جغرافيا غزة. الجبهة الشمالية اشتعلت بعمليات يومية من حزب الله أربكت الحسابات الإسرائيلية وأجبرت مئات الآلاف من المستوطنين على النزوح من مناطقهم. وفي البحر الأحمر، انضمت قوات صنعاء إلى معادلة الردع عبر استهداف السفن المرتبطة بإسرائيل وإغلاق الممرات أمامها، ما شكّل ضغطاً اقتصادياً غير مسبوق على الكيان، وأربك الولايات المتحدة وبريطانيا اللتين وجدتا نفسيهما في مواجهة غير مباشرة مع محور كامل يمتد من طهران إلى بيروت وصنعاء. وفي العراق وسوريا، نفذت فصائل المقاومة عمليات متكررة ضد القواعد الأمريكية، لتصبح معركة طوفان الأقصى حرباً متعددة الجبهات تُدار بمنطق المحور لا بمنطق الفصيل.
أما الدعم الإيراني فقد كان ركناً أساسياً في تعزيز صمود المقاومة وتطوير قدراتها. فإيران، التي تتعامل مع القضية الفلسطينية باعتبارها محور صراع الأمة، قدّمت خبراتها في التصنيع العسكري والتقنيات الصاروخية والمسيّرات، ووفرت للمقاومة دعماً سياسياً وإعلامياً قوياً جعلها أكثر حضوراً في المشهد الإقليمي. هذا الامتداد منح المقاومة عمقاً استراتيجياً وحوّلها من فاعل محلي إلى فاعل إقليمي يمتلك أوراق تأثير تتجاوز حدود فلسطين. ومع توسع دائرة الدعم الشعبي العربي والإسلامي، تحولت الحرب إلى لحظة وعي جديدة في الشارع العربي، كسرت حاجز الخوف وفضحت زيف دعايات التطبيع التي رُوّجت خلال السنوات الأخيرة. فقد سقطت صورة “إسرائيل القوية والمسالمة” أمام الرأي العام العالمي، وتحوّلت جرائمها اليومية إلى مادة إدانة في الجامعات والبرلمانات الأوروبية والأمريكية، فيما ارتفعت الأصوات المطالبة بفرض العقوبات عليها ومحاسبة قادتها.
على الجانب الآخر، اعتمد الكيان الإسرائيلي على دعم أمريكي مطلق، سياسي وعسكري واستخباراتي. فقد أرسلت واشنطن حاملات طائراتها إلى البحر المتوسط والبحر الأحمر ، وقدّمت لإسرائيل ذخائر موجهة وقنابل تدميرية ومنحتها غطاءً كاملاً في مجلس الأمن، حتى غدت القرارات الدولية رهينة للفيتو الأمريكي. غير أن هذا الدعم، الذي كان يُفترض أن يعزز الموقف الإسرائيلي، بدا في الواقع كأنه رافعة عجز أكثر من كونه عنصر قوة، إذ لم يُفلح في تحقيق نصر ميداني أو سياسي يمكن تسويقه. وحتى داخل الولايات المتحدة، بدأ الرأي العام ينقسم، فبرزت أصوات طلابية وإعلامية وسياسية تطالب بوقف الدعم غير المشروط لإسرائيل وتصف ما يجري في غزة بأنه إبادة جماعية. هذا الانقسام شكّل بدوره ضربة للهيمنة الأمريكية التي كانت ترى في دعم إسرائيل عنواناً للإجماع الداخلي، فإذا به يتحول إلى عبء أخلاقي وسياسي.
كل إخفاق إسرائيلي على الأرض كان يقابله مكسب للمقاومة على مستوى الوعي والشرعية. ومع كل مشهد دمار في غزة، كانت صورة المظلومية الفلسطينية تتجذر في الوجدان العالمي، ومعها يتسع التعاطف وتزداد القناعة بعدالة القضية. هذه التحولات في الرأي العام تمثل جزءاً من معركة الوعي التي تخوضها المقاومة على المدى البعيد، وهي معركة لا تقل أهمية عن المواجهة العسكرية، لأنها تعيد تعريف المفاهيم في الوعي الجمعي العالمي، من “إرهاب” إلى “مقاومة”، ومن “دفاع عن النفس” إلى “عدوان”.
إقليمياً، كشفت الحرب حدود التحالفات التي نسجتها إسرائيل عبر اتفاقات التطبيع، فالدول المطبّعة وجدت نفسها في مأزق شعبي وأخلاقي، تتجنب الظهور العلني في دعم كيان يرتكب الجرائم جهاراً. ومع تصاعد الغضب الشعبي، بدأت هذه الدول تنكفئ عن مواقفها، بينما تصاعدت مكانة محور المقاومة باعتباره القوة الوحيدة التي تواجه المشروع الصهيوني على الأرض. أما الولايات المتحدة، التي طالما قدّمت نفسها ضامناً لأمن إسرائيل، فقد بدت عاجزة عن فرض أي تسوية أو حتى وقف إطلاق نار، وكل مبادرة دبلوماسية اصطدمت بإرادة المقاومة التي فرضت شروطها عبر الميدان والسياسة معاً.
وبالنظر إلى نظرية الصراع، يمكن القول إن ميزان القوة اليوم يميل بوضوح نحو محور المقاومة، ليس لأن إسرائيل فقدت قدراتها العسكرية، بل لأنها فقدت أهم عناصر القوة: الردع، والثقة، والقدرة على فرض الإرادة. في المقابل، كسبت المقاومة عنصرَي الإرادة والشرعية، وهما جوهر القوة في صراع طويل الأمد. لقد تحوّل طوفان الأقصى من عملية عسكرية إلى حدث تأسيسي أعاد رسم خريطة المنطقة، وأسقط الهيبة الإسرائيلية، وأطلق مرحلة جديدة تُقاس فيها القوة بمدى القدرة على الصمود والتأثير، لا بكمية السلاح أو حجم الدمار.
كل ما خسرته إسرائيل عسكرياً وسياسياً وأخلاقياً كان مكسباً للمقاومة ومحورها، وكل ما عجزت عنه القوة الغاشمة أنجزته الإرادة الحرة التي غيّرت معادلة الصراع من أساسها، لتثبت أن التفوق الحقيقي لا يُقاس بالحديد والنار، بل بعمق الوعي وعدالة القضية، وبالقدرة على تحويل الألم إلى طاقة، والدم إلى معادلة ردع جديدة، والعزلة إلى محور يمتد من غزة إلى كل من يحمل شعلة الحرية في وجه الطغيان.