حصاد مياه الأمطار مشاريع ري متعددة ونهضة زراعية شاملة
تشكل الأمطار أهم مصدر للثروة المائية في اليمن كون اليمن لا يوجد به انهار فمنذ المراحل الحضارية الأولى فكر اليمنيون في البحث عن إمكانية مثلى لاستغلال مياه الأمطار
في فصل هطولها من خلال السيطرة عليها وتصريفها .
فالإنسان اليمني قديما لم يقف موقفا متفرجا امام غزارة الأمطار وتفاوتها ويبقى أسيرا لها بل سخر كل طاقاته للاستفادة منها وكان مدعوما بوجود سلطة قوية تدعمه وتسانده على اقامة مشاريع انظمة الري للاستفادة من مياه الأمطار .
اعداد: علي الشراعي
لقد اتضح جليا أن اليمنيين أولوا عناية فائقة بالزراعة وبتوسيع اراضيهم الزراعية ولم يكن ذلك ليتحقق لهم مالم يتمكنوا من توفير المياه اللازمة لري تلك المساحات الشاسعة ومصادر المياه في اليمن الأمطار والسيول والمياه الجوفية وفي سبيل الاستفادة القصوى من هذه المصادر الثلاثة سخر اليمنيون طاقاتهم الفكرية وقدراتهم الإبداعية لأجل الاستغلال الدقيق والأمثل لتلك المياه لري الأراضي وإنشاء شبكات ري ومصارف لخروج المياه وتوزيعها بانتظام على المرتفعات والمنخفضات من الأراضي الزراعية وقد كانت طبيعة هذه المنشآت ومستوى إنشائها التكتيكي يختلف وفقا لطبيعة المنطقة التضاريسية وكمية المياه المتدفقة والمتوافرة، فعمل الإنسان اليمني على إقامة المدرجات الزراعية في المناطق الجبلية من أجل توسيع رقعة الأراضي الزراعية وحفظ التربة من الانجراف ومياه الأمطار من الضياع، كذلك عمل الإنسان اليمني على إقامة السدود على مداخل فتحات الأودية لحجز كمية المياه الزائدة على حاجته من جراء سقوطها بكثرة في مواسم الأمطار الغزيرة والاستفادة منها في ري مزروعاته وشربه في السنوات التي تقل فيها كمية الأمطار وكذلك للاستفادة منها في السنوات التي يتقدم فيها موسم الأمطار في اليمن او يتأخر كما تفنن في بناء الصهاريج.
مواسم الامطار
من المعروف انه لا توجد باليمن انهار دائمة الجريان كمصر والعراق إنما تعتمد بصفة أساسية على مياه الامطار التي تتجمع على شكل سيول في الأودية او تحتجزها السدود تخترقها التربة فتغذي الينابيع والعيون والآبار . فهناك موسمان مطيران الموسم الأول صيفي في الفترة ما بين ( يوليو - سبتمبر ) ثم موسم آخر ربيعي يمتد من ( مارس – مايو ). كما تهطل امطار في فصلي الخريف والشتاء على بعض المناطق خاصة المناطق الساحلية . اما الامطار الغزيرة تتركز على المناطق الوسطي والمرتفعات حيث تتجه بعدها إلى نواح مختلفة منها لتروي ما تصادفه من السهول الواقعة في اطراف تلك المرتفعات..
فأمطار اليمن الرئيسية في فصل الصيف وقد لاحظ الرحالة ابن بطوطة ذلك وقال: (إن المطر ببلاد الهند واليمن والحبشة إنما ينزل في أيام القيظ) أي شهور (يونيو- سبتمبر) في حين يذكر ابن رسته انهم (يمطرون في شهور الصيف شهرا واحدا وفي الخريف تمام أربعة أشهر ثم تنقطع الأمطار عندهم) اما ابن المجاور فيذكر ان نزول المطر في اليمن اكثر من تلك المدة بقوله: (وينزل الغيث في جبال اليمن ستة شهور) وهو الأقرب إلى الصواب حيث يوجد باليمن موسمان للأمطار احدهما رئيسي ويمتد من شهر يوليو حتي شهر سبتمبر والآخر ثانوي يتركز خلال شهري إبريل ومايو.
نظام المدرجات
تشكل الأمطار أهم مصدر للثروة المائية في اليمن كون اليمن لا توجد به انهار ومناخ اليمن يمتاز بالتباين لهذا نجد الامطار ذاتها تتفاوت من منطقة إلى أخرى، لكن كثرة تلك الامطار غالبا ما تهدد بعض المناطق التي تتجمع فيها مياه الوديان حينما تكون محملة بالسيول الغزيرة التي سرعان ما قد تجرف التربة والقرى معها، لذلك ومنذ المراحل الحضارية الاولى برزت هذه المشكلة وفكر اليمنيون في إيجاد حل لهذه المعضلة والبحث عن إمكانية مثلى لاستغلال تلك المياه في فصل هطولها من خلال السيطرة عليها أولا وتصريفها إلى الحقول ثانيا حيث يتم ذلك بشكل مقنن ومنظم بدلا من ان تذهب المياه هباء منثورا في رمال الصحراء هدرا او في البحر، فجاءت فكرة بناء منشآت ري تنظم تلك العملية الإروائية، فعلى المرتفعات اقام الإنسان اليمني القديم نظام المدرجات التي تسمى في النقوش (الجروب) (ج ر ب) او (ح ي ق) او (ك ل و ت) وذلك لاستغلال مياه الأمطار في حينها للتو قبل ان تتلاشي من تلك المرتفعات وتذهب سدى دون الاستفادة منها ومن ناحية اخرى منعها من ان تجرف تلك المياه الغزيرة المدرارة معها ما تتمتع به تلك المدرجات الهندسية من تربة غنية، فلم يكن لتلك المياه الهائلة في ظل هذا النظام المبتكر الا ان تستقر في تلك المدرجات لتروي تربتها الخصبة تدريجيا باطراد متناسق بحيث تنساب منحدرة من المدرجات العليا إلى مثيلاتها السفلي.
وقد تحدثت العديد من النصوص النقشية عن بناء تلك المدرجات ومنها النقش الذي عثر عليه في وادي (رخيله) من منطقة عزان بمحافظة شبوة وهذا النقش يتحدث عن جماعات من عشائر (يزن وذي كبرن وذي يصب) كانوا شيدوا مدرجات حقولهم العليا الواقعة في الوادي حتى مزرعتهم حيفان وقد شيدوها وسوروها من أعلاها إلى اسفلها بالجير والحصى بعون الإله صاحب السماء وبعون أربابهم الملوك حكام ريدان- مما يدل على ان الدولة كانت تهتم وتساند تلك الأعمال المجتمعية- وبعون قبائلهم (ضيفتن) و(رثحم) وبعون معاونيهم وصياديهم وحراسهم كان ذلك في شهر (ذو سربان) من سنة 560 حميري الموافق 445م وهناك نقوش أخرى تتحدث عن بناء المدرجات على المرتفعات الجبلية .
منشآت السدود
الطريقة الثانية التي قام بها اليمنيون للاستفادة من السيول الآتية من المرتفعات الجبلية نتيجة غزارة الأمطار وقد اقاموا السدود والقنوات والصهاريج المتعددة ولكل سد وظيفته وطبيعة إنشائه حتى اشتهرت بلاد اليمن بأنها بلاد السدود وقد جاء في النقوش لفظ (عرم) بمعنى السد كما جاء في سورة سبأ الآية:15 (فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم).
ومن اقدم سدود اليمن كما هو معروف سد مأرب وكان يسمح بري اكثر من خمسة آلاف هكتار من الأراضي الزراعية فإنشائه كسد تخزين وتصريف فحجز المياه المتدفقة نحو الصحراء والبحار خلال فصل الامطار الغزيرة وإعادة توزيع تلك الكميات من المياه خلال فترات الجفاف بغية تحقيق مستوى مضمون من الرخاء الاقتصادي، وسد مأرب بنى في بداية الألف الأول قبل الميلاد ما بين 850- 900 ق . م . وقد أقيم سد مأرب لحجز المياه الموسمية المنحدرة من المرتفعات الجبلية، وإلى جانب سد مأرب شيد اليمنيون في التاريخ القديم العديد من السدود للاستفادة من مياه الأمطار ومنها سد الخانق بصعده الذى بني في عهد الملك لحميري سيف بن ذي يزن كذلك سد ريعان في همدان ولما خرب نقص غيل وادي ظهر إلى النصف وسد سيان في جنوب شرق صنعاء وسد جيرة في عنس بذمار وسد بيت كلاب في ظاهر همدان وسد العرائس في لحج وسدود أودية بيحان وجردان وعمد و سدود يحصب في دولة حمير بظفار التي بلغ عددها ثمانين سدا.
سدود تحويلية
تقسم السدود الى اقسام نتيجة طبيعة عملها والغرض من انشائها ومنها سدود تحويلية ويمتاز هذا النوع من السدود ببساطتها حيث تقام اساسا لهدف رفع منسوب مياه السيول المتدفقة في المجري على الأراضي الزراعية المحيطة وليس للخزن وبتوافر مثل هذه السدود امكن الاستفادة من هطول الأمطار بشكل مباشر اولا بأول حيث كان يتم صرف مياهها عبر قنوات جانبية حيث كان يتم صرف مياهها عبر قنوات جانبية، ومازال هذا النوع من السدود التحويلية منتشرا في اليمن حتى اليوم ويسمى (أعبارا) او (عوارض ).
سدود خزن وتصريف
يبنى هذا النوع من السدود من الاحجار الكبيرة حيث تقام تلك السدود في اضيق مكان من الوادي اي في المكان الذي يهدأ فيه اندفاع السيل ويهدف بناء مثل هذه السدود الى درء خطر السيول التي تنهمر بشدة نتيجة غزارة الامطار فتهدم القرى والمزارع وتجرف التربة، كذلك رفع منسوب المياه في مجرى الوادي إلى الحقول الزراعية بواسطة نظام إروائي دقيق عبر شبكات وقنوات ري منظمة، والاستفادة القصوى من تلك المياه لري الأراضي في فترة الجفاف، ومن تلك السدود سد مارب ويتسم بضخامته وروعة هندسته و يعد من أكبر المشاريع الهندسية للري في شبه الجزيرة العربية حيث كان في وجوده رخاء لسكان المنطقة ووفرة في اقتصادهم الزراعي وبقي هذا السد العملاق قائما لأكثر من ألف عام، فنظام التخزين فيه اعد بحيث يسمح بوصول السيل إلى الأراضي الزراعية عبر مصرفين كبيرين على جانبي السد ثم تتوزع المياه بعد ذلك عبر قناتين رئيسيتين ثم قنوات فرعية.
شبكات ري
كذلك استفاد اليمنيون من الامطار الغزيرة بعمل شبكات وقنوات ري متنوعة بدقة هندسية مكنت من حسن توزيعها فقد كشفت بعثات الآثار في كثير من المدن التاريخية عن بقايا لشبكات ري متنوعة امكن من خلالها وصول الماء إلى الحقول الزراعية فهناك قنوات مكشوفة وأخرى مغطاة تتدرج تلك القنوات في تفرعها من قنوات رئيسية تسمى (عبر) جمعها أعبار إلى قنوات ثانوية يسمى الواحد منها (شرج) وجمعها (اشراج) وجميعها تتحكم في تصريف الماء بكميات قليلة او كثيرة حسب الحاجة وتظل تلك القنوات مفتوحة على الدوام وبهذه الطريقة فإن السيل عندما يأتي فجأة في الليل او النهار تتوزع مياهه تلقائيا على المزارع كما ان تلك الطريقة تتسبب في تسرب كثير من الماء إلى باطن الأرض فيرتفع منسوب المياه الجوفية في الوادي ويسهل بذلك الحصول على الماء عن طريق حفر الآبار في ذلك المكان وهناك عدد من النقوش تتحدث عن بناء القنوات وتعميرها، فقد اكتشفت البعثة الأمريكية التي زارت بيحان عام 1952م وجود قناة ري رئيسية عند (هجر بن حميد) يبلغ طولها 1200 متر أقيمت عليها حواجز ذات فتحات لتوزيع المياه على جانبيها .
الصهاريج
الصهاريج او ما يسمى (الكريف) لقد تمكن اليمنيون قديما من التحكم بمياه السيول المنحدرة في الاودية عن طريق إقامة منشآت ري متنوعة يتم توزيعها على الأراضي الزراعية والاستفادة منها، كذلك تمكنوا في المناطق التي تخلو من المياه العذبة من حفظ مياه الأمطار داخل خزانات تحفر غالبا في الصخر وتبطن بمادة لا تسمح بتسرب الماء من خلالها وكان الهدف من خزن تلك المياه هو اما ان تكون للشرب او للاستعمال المنزلي.
وتنتشر الصهاريج في اليمن فوق المرتفعات الجبلية كمرتفعات محافظة إب كما وجد أثار لتلك الصهاريج فوق الجبال التي كانت بها تحصينات للمراقبة على طول سواحل اليمن وفي بعض الجزر المجاورة لها.. وقد عثر الآثاريون على بقايا صهاريج كانت تستعمل في العصور القديمة كصهاريج (حصن الغراب) حيث موقع مينا قنا المشهور قديما بمحافظة شبوة.. لكن أكبر عدد من الصهاريج كان في وادي الطويلة بمدينة عدن فقد عثر على بقايا اكثر من خمسين صهريجا وترجع تلك الصهاريج إلى عهد الدولة الحميرية في تاريخ اليمن القديم.
فندرك من كل ذلك بأن الإنسان اليمني قديما استطاع الاستفادة من غزارة الامطار من خلال مشاريع ري متعددة ساهمت في تطوير الزراعة وانتشارها في مناطق واسعة من اليمن مما اوجد الرخاء الاقتصادي.. فعلى الاودية اقام اليمنيون السدود وأنشأوا القنوات وفي المناطق الداخلية حفروا الآبار وعلى المرتفعات بنوا المدرجات الزراعية واستغلوا مياه الامطار كما تفننوا في بناء الصهاريج . فتحولت مشكلة غزارة الامطار إلى ثراء اقتصادي وحولت اليمن إلى ارض دائمة الاخضرار فهي التي سماها الله بلدة طيبة وسماها اجدادنا الحميريون (اليمن الخضراء).
واليمن اليوم مقبلة على ثورة حقيقة في المجال الزراعي والاهتمام به واعادة مجد الاباء والاجداد فبعد قيام ثورة 21 سبتمبر وبتوجيهات من المجلس السياسي الاعلى بالاهتمام بالجانب الزراعي والسدود فقد تم الاهتمام بالموارد المائية، حَيثُ تم تنفيذ (254) مبادرة ومشاريع في مجال الري، ما بين سدود وحواجز، وخزانات، وكرفانات، وقنوات ري واليوم ومع موسم الامطار يجب ان تكون هناك خطط مدروسة للاستفادة القصوى من مياه الامطار نظرا للتوسع الحالي التي تشهده بلادنا في المجال الزراعي وخاصة زراعة الحبوب والتي تشكل جزءاً من الأمن الغذائي للبلد.
ونتيجة لأهمية القطاع الزراعي منذ القدم كونه يمثل حجر الزاوية في التنمية الشاملة وتحقيق الاستقرار الاقتصادي والأمن الغذائي والاستقرار الاجتماعي، فقد حظي هذا القطاع بخطط وبرامج في إطار الرؤية الوطنية لبناء الدولة اليمنية الحديثة.