السعودية.. ومفاوضات السنوات العجاف! (2)
النتيجة الطبيعية للتفاوض هي توصل الأطراف إلى اتفاق بشأن المواضيع التي تم التفاوض حولها . ويعتبر التفاوض في مجال ( الحدود الدولية ) من أصعب أنواع المفاوضات ,
فالطرف المسيطر على الجزء المتنازع عليه لا يمكن أن يتخلى عن ذلك الجزء إلا في إحدى حالتين إما أن يجبر على ذلك باعتبار المفاوضات امتداد لفوهة المدافع , أو أن تتكون لديه قناعة بأن لا حق له في ذلك الجزء فيبادر بإعادة الحق إلى أهله وهذا أمر نادر الوقوع. والطرف الذي فقد ذلك الجزء من أراضيه لا يمكنه التسليم بشرعية استيلاء خصمه ولذلك يظل مترقبا للفرصة المناسبة للوثوب على خصمه واستعادة حقه المغتصب . فتلك المفاوضات التي استمرت ما يقرب من ثماني سنوات أعقبها شن السعودية عدوانها على اليمن في 22 مارس 1934م .
علي الشراعي
كان ابن سعود قد بدأ في السعي للاعتراف الدولي به بعد أن سمحت له بريطانيا والذي كان تحت حمايتها بموجب معاهدة 1915م , في إقامة علاقات خارجية وفق اتفاقية جدة 1927م , وكانت المباحثات من أجل الاعتراف الأمريكي بابن سعود قد بدأت بمناسبة توقيع معاهدة منع الحروب والمعروفة بميثاق باريس أو اتفاقية ( بريان - كيلوج ) عام 1928م , والتي أنكرت ورفضت الحرب كأداة للسيادة القومية , وقد قامت حكومة ابن سعود بالتوقيع على تلك المعاهدة، ومن ثم أصبح ملزما دوليا بالامتناع عن الحروب العدوانية , ولذلك ظل يتحين الفرصة المناسبة من خلال اظهار المباحثات مع صنعاء لشن الهجوم على اليمن ويعمل على إيجاد المبررات التي تظهر حربه على أنها دفاعية .
سلوك صنعاء
كانت صنعاء خلال مباحثاتها ومفاوضاتها ونزاعها مع آل سعود تواجه نزاعا في مستواه أو أشد منه وهو نزاعها مع المحتل البريطاني لجنوب اليمن والذي سخر إمكانياته لإضعاف الدولة اليمنية في صنعاء فعمل على إثارة الاضطرابات الداخلية من خلال رعاية العناصر المناوئة لصنعاء وتقديم الدعم اللازم لها .ومن ثم لم يكن بإمكان سلطة صنعاء أن تفتح لها جبهة أخرى من ناحية , ومن ناحية أخرى اعتبرت السياسة اليمنية في صنعاء آنذاك أن الخطر البريطاني أولى بالمواجهة . ولذلك كان السلوك اليمني في تعامله مع ابن سعود خلال مفاوضات السنوات الثمان 1926- 1934م , يقوم على ركيزتين:
الأولى: تجنب الخيار العسكري: فعندما تدخل ابن سعود في الشؤون اليمنية وأعلن حمايته للإدريسي في اكتوبر 1926م , في الوقت الذي كان الوفد السعودي في صنعاء فإن الدولة اليمنية لم تقم بأي هجوم كما لم تقم بطرد الوفد السعودي من أراضيها , وعندما شن ابن سعود هجومه العسكري على جيزان 1933م , وقضى على الأدارسة لم تقم صنعاء بأي رد عسكري مضاد .
الثانية : عدم الاعتراف بأي استحداثات يقوم بها آل سعود : رغم أن صنعاء لم تقم بأي فعل عسكري ضد الاحتلال السعودي للأراضي يمنية عسير وجيزان بل استمرت في المفاوضات , لكنها ظلت تعتبر تلك الافعال غير مشروعة من عدة نواحي منها :
1 -اعتبر الجانب اليمني في المفاوضات إعلان ابن سعود حمايته للإدريسي إعلانا باطلا لأن محاولات صنعاء لإخضاع الإدريسي كانت قائمة لم تنته بعد .
2 - اعتبرت صنعاء وجود القوات السعودية في منطقة عسير انتهاكا مباشرا لحدود الدولة اليمنية ولمبادئها التي تؤمن بها وبخاصة مبدأ ( اليمن لليمنيين ) .
3-رفضت الحكومة اليمنية الإعلان السعودي بضم عسير حيث أصر الجانب اليمني في مفاوضات يوليو 1933م , على تخلى السعودية عن عسير .
سير المفاوضات
من خلال تتبع مسار المفاوضات التي استمرت ثماني سنوات يتضح الآتي:
من خلال مباحثات صنعاء في 1926/ 1927, سعى الجانب اليمني إلى استعادة مدينة أبها وإيجاد تسوية لقضية مذبحة الحجاج اليمنيين في تنومة 1922م , بينما طالب الجانب السعودي بالحفاظ على إمارة الأدارسة .
كان الجانب السعودي يتحرك على الأرض ويحتل أراضي يمنية ثم يفاوض سعيا إلى إقرار الأمر القائم , وأملا في الحصول على مكاسب جديدة، أما الجانب اليمني فكانت وسيلته المباحثات فحسب ! سعيا وراء استعادة ما فقده .
خلال مباحثات صنعاء يوليو 1933م, والتي عقدت بعد الهجوم السعودي الذي أدى إلى احتلال ما تبقي من عسير وفرار الأدارسة إلى صنعاء، سعى الجانب اليمني إلى استعادة عسير, أما الجانب السعودي فطالب بتسليم الأدارسة !.
خلال مباحثات أبها 1934م , طالب الجانب اليمني بإيجاد حل لمشكلة عسير, بينما طالب الوفد السعودي بإخلاء نجران .
فشل المفاوضات
من خلال تتبع سير المباحثات , وما كان يجرى على الواقع نلاحظ أن الجانب السعودي هو الذي كان يبادر بإرسال الوفود إلى صنعاء , فقد أرسل ما لا يقل عن ثلاثة وفود خلال الأعوام (1926, 1927, 1933م), مما يجعل المتتبع يظن لأول وهلة أن الطرف السعودي يبحث عن السلام ويحرص على اتفاق الدولتين، لكن ذلك الظن يتبدد عند استعراض ما دار في لقاءات الأطراف وما حدث من تحركات على الجانبين, وما جرى من اتصالات ومراسلات بين الطرفين أو بينهما وبين الآخرين, وكيف كان ابن سعود يستغل انشغال حكومة صنعاء بنزاعها مع المحتل البريطاني في جنوب اليمن . ولذلك يتضح للجميع عن المسؤول عن فشل تلك المفاوضات من خلال عدة حقائق منها: كان الهدف من إرسال الوفود إلى صنعاء هو الاطلاع على الأوضاع في اليمن والعمل على كسب موالين ومؤيدين , فالوفد السعودي الأول الذي أرسله ابن سعود إلى صنعاء عام 1926م , مكث ما يزيد على السنة ولما عاد إلى ابن سعود قدم له تقريرا عن الوضع الداخلي في اليمن . لم يكن الهدف من المباحثات التوصل إلى حلول مناسبة لمشاكل قائمة من خلال استعراض وجهات نظر الطرفين كما يحدث عادة في المفاوضات , بل إن ابن سعود كان يرسل الوفود إلى صنعاء بغرض تقديم طلبات وإملاء شروط، كان إرسال الوفود والرسائل غرضه إلهاء للجانب اليمني وتغريرا به وخداعه! ففي الوقت الذي كان ابن سعود يؤكد للإمام يحيى (إنه ليس لنا أغراض أو مطامع سواء في شخصكم أو وطنكم)، كان يجلس مع مستشاريه يضع الخطط لهجومه الشامل على اليمن وفي الوقت الذي كان ابن سعود يراسل صنعاء ويؤكد نيته الصادقة في تجنب أي عمل هجومي كان يراسل بريطانيا يطلب منهم الدعم المادي والعسكري لاحتلال ما تبقي من اليمن الشمالي آنذاك ومبديا استعداده لتقديم التنازلات التي ترضي البريطانيين !. كان هدف ابن سعود من عقد اللقاءات والمباحثات مع صنعاء هو الظهور بمظهر الحريص على السلام والساعي إليه حتى إذا دخل في حرب شاملة ضد صنعاء يكون قد كشف للعالمين العربي والإسلامي موقف صنعاء مما يسوغ له شن حرب ضدها.
ابتلاع أراضي يمنية
اتبع ابن سعود خلال مفاوضاته مع صنعاء خطة تكاد تكون واحدة للاستيلاء على مزيد من الأراضي اليمنية منذ أن بدأ في إرسال الوفود إلى صنعاء تمثلت تلك الخطة في :
1- إثارة الجدل حول المنطقة التي يريد احتلالها فعندما اراد احتلال ما تبقي من عسير طالب صنعاء بالإبقاء على إمارة الأدارسة .
2- ثم مطالبة ابن سعود بحياده إمارة الأدارسة لتكون منطقة عازلة بين الطرفين , فقد كانت هذه ذريعته عندما أراد الاستيلاء على جيزان , وكانت ذريعته أيضا حينما اراد الاستيلاء على نجران . وهذه الخطة يؤكد ما ذكره (فيلبي) المستشار البريطاني لابن سعود حيث قال: ( إن ابن سعود كان يرى ضرورة ترك هذه الأماكن لاستقلالها الفوضوي بعض الشيء إلى أن تدفعها أوضاعها إلى الوقوع تحت سلطته ) . – ومازالت تلك السياسة لآل سعود تتجلى اليوم من خلال مباحثاتهم مع صنعاء وما تشهده المحافظات اليمنية الجنوبية المحتلة من فوضي واضطرابات وتريد اليوم تكرار سيناريو مباحثات الأمس حول عسير ومستغلة الظروف الدولية لصالحها . ففي مفاوضات 1926- 1934م , استغلت الاحتلال البريطاني لمساندتها واشعال جبهة أخرى في جنوب اليمن ضد صنعاء , واليوم تستغل الرياض العدوان الثلاثي على اليمن (امريكا وبريطانيا والكيان الصهيوني) لتحقيق أطماعها في جنوب اليمن وبالذات في حضرموت والمهرة ! - . فخلال عامي 1927- 1928م , وبينما كانت قوات صنعاء تخوض قتالا داخل ما يسمي بالمحميات , كانت الطائرات البريطانية تقصف عددا من المدن اليمنية كمدينة تعز وقعطبة ويريم ومخلفة الرعب والدمار وموقعه العديد من الضحايا الابرياء فقد استشهد وجرح في مدينة تعز لوحدها 300 شخص، فأستغل ابن سعود ذلك واراد شن حرب ضد صنعاء لرفضها مطالبه في تحديد الحدود بين اليمن وبين ما اسماه بإمارة الادارسة .
3- كان ابن سعود خلال المفاوضات يستغل أية مشكلة داخلية في اليمن, فيتهم قوات صنعاء في اختراق الحدود واعتدت على أراضيه , وقد تكرر ذلك خلال مرتين , فالأولى ما عرف بمشكلة العرو 1931, والأخرى أثناء قيام قوات صنعاء بوضع حد لتمرد قبيلة يام في نجران على الحكومة المركزية عام 1933م .
4- شن الحرب بذريعة الدفاع عن أراضيه فعندما فشل ابن سعود في الاستيلاء على ما تبقي من عسير عن طريق الخداع والحيلة قام بشن هجوم على جيزان تحت ذريعة مخالفة الإدريسي لاتفاقية الحماية عام 1933م , وإن إيطاليا تزود صنعاء بالسلاح وتشجعها على شن هجوم ضده ولما ضمن ابن سعود عدوانه وهجومه الشامل على اليمن عام 1934م كان تحت ذريعة تحرير نجران ! .
المطالبة بتحديد الحدود بناء على الأمر الواقع , فبعد ما احتلت قوات ابن سعود مدينة أبها عام 1921م , قدم وفده المرسل إلى صنعاء اقتراحا بتحديد الحدود بناء على ذلك الواقع , ولما أعلن حماية الإدريسي عام 1926م طالب ابن سعود بتحديد الحدود بين اليمن وبين ما أسماه (إمارة الأدارسة), ولما قضى على الأدارسة وأعلن ضم عسير إليه عام 1933م, حاول خلال المباحثات الضغط على صنعاء أكثر من مرة كي تحدد الحدود في ضوء تلك التطورات .
شن العدوان
في الوقت الذي وافق ابن سعود على عقد مؤتمر المفاوضات في أبها عام 1934م, كان جيشه بعد ان ابتلع عسير وجيزان يقف متأهبا على الحدود استعدادا لشن الهجوم على نجران - وبالرغم ان مدينة أبها يمنية احتلها ابن سعود عام 1926م, وكانت هي إحدى الملفات المطروحة في أول مباحثات بين صنعاء وابن سعود فعقد مباحثات فيها بين الطرفين وموافقة صنعاء على ذلك للأسف اعتراف بتسليمها لابن سعود , وهذا الذي لم يفطن له وفد صنعاء وعندما وصل الوفد اليمني إلى مدينة أبها أحس بنبرة استعلاء وتلويح بالحرب كأنما ذهب الوفد اليمني لتلقي أوامر ولا يحق له مناقشتها أو مراجعتها من خلال تصريح الوفد السعودي الذي جاء فيه: (إن السلم والحرب متوقفان على قضية نجران) ولم يقتصر الأمر على ذلك بل قام ابن سعود باحتجاز الوفد اليمني المفاوض ضاربا عرض الحائط بكل الأعراف والمواثيق الدولية . فعندما أصر الجانب السعودي على مطالبه اراد الوفد اليمني العودة إلى صنعاء للتشاور وأن يتاح له من الوقت ما يراه مناسبا لدراسة الموقف , وعلاوة على ذلك بعثت صنعاء برسالة إلى ابن سعود بعودة وفدها للتشاور وبدلا من أن يرد ابن سعود على رسالة صنعاء قام بشن عدوانها الشامل على اليمن والوفد اليمني محتجز لديه وبذلك انتهت مباحثات ثماني سنوات من الخداع السعودي لتنتهي بعدوان على اليمن وابتلاع أراضي يمنية وإجبار صنعاء على توقيع معاهدة مجحفة سميت بمعاهدة الطائف في مايو 1934م.