تركيا والسعودية.. من المنتصر ؟
كعادتهم الانتفاخية، قال السعوديون إن "مجيء" الرئيس التركي إلى بلادهم في الـ 29 أبريل 2022م دليل انتصارهم عليه. بالمقابل كرس الخطاب التركي جهده للتقارب.
بينما سوقت قيادة الغرب (نتيجة تعادل) مع همسة في أذن صبيانية النظام السعودي بأن التعادل في أرض الدولة المستضيفة بمثابة انتصار، لكن رواية ثالثة يسردها هذا المقال تقول غير ذلك، ولعلها وفرت للقارئ إجابة شاملة للتساؤل المطروح: تركيا والسعودية.. من المنتصر؟
26 سبتمبر | إسحاق المساوى
أعوام القطيعة الخمسة كادت تعود معها حملات الاستئصال التاريخية بين السعودية وتركيا، لولا حاجة الغرب اليوم لفرض تقارب قسري بين هاتين الدولتين المتصارعتين على زعامة العالم الإسلامي.
إذ لم تفتأ تركيا والسعودية عن الصراع لحظة واحدة على زعامة العالم الإسلامي، وهذا الأمر جعل (تركيا تحديداً) تتنازل عن دوافعها الدينية والحضارية للزعامة الإسلامية، مقابل زعامة تنافسية مع السعودية تحت ظل الغرب ودوافعه وحضارته، وبالتالي ستسهل هذه الحقيقة معرفة لماذا انتصر هذا الطرف وخسر ذاك.
ما تسمى بدول العالم الأول بقيادة الغرب، تريد دولة مركزية إسلامية تسيطر على تفوق حضارة العالم الإسلامي، فهي حضارة تملك مقومات تصدُّر بقية الحضارات على كافة الأصعدة. ولأن أهمية العالم العربي بعد ظهور الإسلام جعلت لأحداثه ما كان يحدد وجه التاريخ للعالم. فكل حرب أو سلم في هذه الرقعة من الأرض كفيل بأن يؤدي للتأثير المباشر على معادلة القوى العالمية لأسباب عديدة، منها التاريخية والدينية والجغرافية وحتى الثقافية.
هكذا عالم إسلامي وعربي بكافة مواريثه الإنسانية والحضارية يجب أن يُخلق له دولة تمثله وتضبط إيقاعه شريطة الولاء لقيم الغرب، والإيمان بمصالحه أولاً، ولعله غني عن التأكيد للدور الذي تلعباه (السعودية وتركيا) بهذا الشأن، وما يحتاج تأكيداً هو الاقتتال التنافسي بينهما على زعامة إسلام ومسلمين بمقاسات الغرب ومصالحه وتحت ظله.
هذه التوطئة تقودنا لجانب من خبايا آخر جولات الصراع بين الدولتين في ساحتيهما المحلية وساحتي نفوذهما الدولي، والأسس التي سنعرف من خلالها من هو المنتصر، ولتكن قضية خاشقجي مثالاً لا حصراً.
في قضية خاشقجي عرفنا أسلوب تركيا رغم نعومته، إلا أنه أشد المواقف خبثاً ضد السعودية منذ حملة محمد علي باشا لاستئصال آل سعود. فعلى المستوى الدولي حاولت تركيا إثبات كفاءتها مقارنة بالنظام السعودي الذي خرق بأسلوب مقتل خاشقجي ركائز النظام الدولي، أو بالأحرى اضطر النظام الدولي لأخذ مواقف صارمة ضد السعودية حتى لا تتكشف أكثر الجوانب المظلمة فيه.
استهدفت تركيا ركائز السعودية للحفاظ على مكانتها كدولة مركز إسلامية. وأرادت بالمقابل أن تقول إنها الدولة الأوفر حظاً؛ فهي جمهورية على نمط غربي، وإسلامية على يافطة عصرية، وعضو في الناتو، وهذه معطيات تؤهلها على حساب السعودية لزعامة العالم الإسلامي.
اضطر النظام السعودي مؤخراً إلى استجلاب النموذج الغربي بكافة تفاصيله وأبعاده؛ لرفع مؤهلاته التنافسية مع تركيا على الزعامة، بينما استخدمت تركيا قضية خاشقجي للتشكيك بكفاءة السعودية كون لحاقها بركب التغريب شكلاني فقط، لم يتجسد بعد في الوجدان والوعي والسلوك على كافة الجوانب بما فيها السياسية والاجتماعية (والدينية تحديداً).
عرفت تركيا كيف تستغل وسائلها الاستراتيجية، مقارنة بالنظام السعودي. وأثبتت بتعاطيها بالذات مع قضية خاشقجي قبل وبعد مقتله، مدى عجز النظام عن استغلال وسائله الاستراتيجية، خصوصاً حين يضطر للمجازفة بفريق رسمي محسوب على أعلى السلطات من أجل قتل شخص واحد، وأيضاً حين يعجز عن تجاوز أزمة قتل شخص واحد. ما يعني أنها لم تع بعد معنى سياسة إقليمية ولا دولية، فضلاً عن أن تبقى تجسيداً حصرياً للعالم الإسلامي.
من جانب آخر، وتحديداً في مواجهة ردة الفعل الغربية الشرسة على النظام السعودي بشأن خاشقجي دفعت تركيا -أو ربما جرت الأمور على النحو الذي يخدمها- أن يواجه النظام ردة الفعل تلك، بالتهديد الانتحاري لعقد تحالف مع إيران وحزب الله ألد أعداء (أمريكا وإسرائيل)، والتهديد أيضاً بمنح روسيا أو الصين قاعدة تبوك (تحديداً) باعتبارها أقرب قاعدة جغرافيّاً إلى إسرائيل.
التهديد السعودي الذي أورده مقال لتركي الدخيل المقرب من ولي العهد محمد بن سلمان، كان يعني أن عقد العمل الاستراتيجي مع أمريكا وإسرائيل سيتم الغاؤه، وأقل خسائره ما توفره السعودية من بيئة استراتيجية مُبغضة لإيران تحت حجج طائفية ومذهبية، بينما هي تخدم إسرائيل بالمقام الأول، الأمر الذي عزز المفاضلة لصالح تركيا، وأظهر أن السعودية طالما ساومت بأوراق ممنوعة فإن نظامها لم يعد حارساً أميناً على مصالح الغرب وبقائه، وحينها، يكون النظام السعودي قد هز ثقة الغرب به، لا بسبب خطأ واحد، بل بسبب رصيد من الأخطاء الاستراتيجية والتكتيكية التي منحت الغرب مبرراً لإعادة التقييم والمفاضلة، بشأن الزعامة الإسلامية.
إن منح الغرب مبرراً لإعادة (التقييم) والمفاضلة بين مجموع البدائل على زعامة العالم الإسلامي كان هدفاً تركياً رئيسياً.
ورغم ما تحقق، لم تقتصر الحملات التركية لتحجيم النظام السعودي على الساحة الدولية وحسب، بل امتدت الحملات إلى تابوهات النظام السعودي "البيئة الداخلية" فيما يشبه رسالة مفادها: نمتلك قدرات تدمير السعودية في الخارج والداخل معاً" مرفقاً بتساؤل: هل تمتلك السعودية ما نمتلكه؟
تركيا في جزئية تسريبات مقتل خاشقجي فقط، جعلت النظام السعودي يقضي على أهم ناموس من نواميس وجوده إن لم يكن ركن نواميسه وهو: "الهيبة المستوحاة من الحكم المطلق نيابة عن الله" الذي ظل يسقيه الشعب طوال عقود.
في ذات الوقت استعادت تركيا قدراتها التاريخية باختراق نظام الدولة السعودية الثالثة كما اخترقت قديماً الدولة الأولى، والثانية، وكانت سبباً في سقوطهما. ما يعني بالمفهوم الاستخباراتي، وصول تركيا لأعلى مستويات السيطرة والتحكم، كونها قادرة على حماية أمنها القومي، وعلى اختراق الأمن القومي للدولة المعادية (السعودية) تكريساً لنفس الهدف: افهموا أيها الغرب النظام السعودي أقل من مستوى المواجهة ناهيكم عن المفاضلة.
جيشت تركيا معارضين سعوديين بمن فيهم خاشقجي، بمنهجية "بنيوية" معارضة لا تستهدف على المدى القصير اسقاط النظام، بل هدفها الشراكة مع النظام في الحكم لتسهيل اسقاطه على المدى البعيد. إذ توافق (المعارضة البنيوية) الملك السعودي وابنه ظاهرياً، مع معارضتها لآلية النظام وديناميكيته في كافة المجالات سيما العسكرية، والسياسة، والاقتصادية، والحقوقية، بمنطق هز ثقة الشعب بنظامه، وبلغة ذرائعية- براغماتية أفصحت عن تعارضه- أي النظام السعودي- مع مصالح الغرب والنظام الدولي ككل، ما يعني أن هذا النظام أيها الغرب وفق فلسفتكم البراغماتية والذرائعية فاقدا لحيوية الأداء وفعاليته.
عسكرياً، استثمرت تركيا المقاطعة الخليجية لدولة قطر، بتواجد قواعدها على مقربة من الحدود السعودية وهو عند الأخيرة، يمثل أخطر اختراق مباشر من بعد الاحتلال العثماني لها.
حالياً تواجه السعودية تواجد بديلها التركي في عمقها وخارطة نفوذها الدولية، الأمر الذي يمنح (تركيا) تقييماً عالياً جداً لدى قادة الغرب، وبالمقابل تقل فرص السعودية، وحظوظها على زعامة العالم الإسلامي.
لعله بعد أن بلغت قضية خاشقجي ما بلغته، سلمت تركيا ملف خاشقجي للنظام السعودي، كون الأهداف التركية من الاستئثار والاستثمار بملفه قد تحققت بنجاح واقتدار.
أما زيارة رجب طيب إردوغان إلى السعودية نهاية أبريل 2022م ، فقد أظهرت تفوق بلاده في إدارة الصراع، وإن قيل بلغة استعلاء: "إيه والله وجبناه". ولعل أقل مؤشرات التفوق إبرام اتفاقيات تجارية مع السعودية عوضت نفقات حملته الخبيثة ضدها، وقد يهمس إردوغان بإذن الغرب هازئاً: النظام السعودي يعوضني المال الذي أنفقته على تدميره هل مازلتم تراهنون عليه!
وهكذا، كلما أوغل الغرب بتمسكهم بالنظام السعودي، أوغلت تركيا بإحراج الغرب بالسعودية نفسها. ذلك أن النظام السعودي بتقييم تركي خيار أثبت فشله منذ لحظات بزوغه، وبالتالي رفع قدراته الإقليمية، والدولية من جديد تتطلبان تكاليف ضخمة غير مضمونة النتائج والعواقب.
إنه لأمر مؤسف لا يؤكد وحسب أن هاتين الدولتين لا تحكمان بل الغرب من يحكم، بقدر ما يؤكد أيضاً عدمية صراعهما على زعامة إسلامية تحت ظل الغرب. أما الإجابة على تساؤل المقال، من أنتصر؟ هُزمت السعودية وتركيا، وانتصر الغرب.