التقسيم في العقلية البريطانية..مصير فلسطين (2)
عبدالله بن عامر
في هذه الحلقة تعرض «26سبتمبر» ضمن موضوع (مصير فلسطين) الذي جاء ضمن المواضيع التي تضمنها الفصل الأول من كتاب الباحث عبدالله بن عامر (تقسيم اليمن بصمات بريطانية ) فيما يلي النص كما ورد :
مصير فلسطين
تمتع اليهود بنفوذ كبير في الدولة العثمانية وهذا يعود الى الجماعات الماسونية التي انتشرت في الدولة أواخر القرن التاسع عشر وفي نفس الوقت كان هناك نفوذ يهودي في الدولة الألمانية ،بل وحتى في ورسيا وبريطانيا قبل أن تتجه الأخيرة الى التقارب اكثر مع الحركة الصهيونية وجرت لقاءات بين سايكس البريطاني وعدد من اليهود ،وبترتيب من وزير الداخلية البريطاني اليهودي صموئيل تم التوصل الى ضرورة ضمهم لصفقة التقسيم مقابل الحصول على تأييدهم ،وبدأت الخطوات الفعلية لتقرير مصير فلسطين بمنحها للحركة الصهيونية ،وهذا التوجه لم يكن وليد لحظة الحرب العالمية الأولى بل يعود الى مطلع القرن التاسع عشر حيث بدأت الهجرات اليهودية سراً الى فلسطين ثم العرض عليهم بمنحهم دولة اوغندا إلا أنهم أصروا على فلسطين وكان العائق الكبير امام تنفيذ وعد بلفور هي فرنسا المعتمدة على أسباب تاريخية ودينية تدفعها إلى التمسك بسورية وفلسطين معاً ولتجاوز ذلك تواصل وزير الخارجية البريطاني بوزير الخارجية الفرنسي وقال إن بريطانيا ليس لها مصلحة في فلسطين ويجب كسب اليهود الصهاينة بمنحها لهم والعرض عليهم إقامة مؤسسة توطين وهي تتولى شراء الأراضي ،ومع الرفض الفرنسي ضغطت بريطانيا أكثر من خلال التلويح بأن اليهود سيرجحون كفة الألمان في الحرب إذا لم يتم الإستجابة لرغبتهم ، وبالفعل اتجهت بريطانيا الى تنفيذ وعدها لليهود وكانت الخطوات الميدانية تبدأ باحتلال فلسطين حيث تقدم جيش اللنبي من مصر بمساندة فيصل بن الحسين وتقدمت القوات البريطانية لاحتلال العراق بمساندة ابن سعود
نحو تعدد القوميات
عمل البريطانيون على إلغاء الخلافة بعد نقاش طويل حول إمكانية نقلها الى الحسين في الحجاز الا أن سياستهم اعتمدت على إحياء القوميات ولهذا تضمن خطابهم وقتها أن الدولة البريطانية تتعاطف مع كلاً من اليهود والعرب والأرمن وتساعدهم جميعاً لتحقيق الاستقلال من الاتراك واتجهت بريطانيا لمحاولة إنشاء تحالف عربي يهودي أرمني ضد الدولة العثمانية وقد كان اليهود أكثر ذكاء من العرب في تلك الحرب حيث توزع نفوذهم على جميع الدول المتحاربة من الطرفين معاً فهم من دفعوا العثمانيين الى التحالف مع المانيا وعندما حاولت بريطانيا تأجيل وعدها بفلسطين لوحوا باللجوء الى المانيا لتحقيق ذلك الوعد.
في تلك الحرب ذكّر اليهود البريطانيين بوعدهم السابق في 1903م وذلك بمنحهم وطناً في قبرص أو سيناء أو اوغندا أو العراق ،وتأسست علاقة بريطانية مع الحركة الصهيونية كان لها نتائج مؤثرة فوايزمان الصهيوني ساعد البريطانيين في استخراج الاسيتون من الذرة الصفراء المكون الحيوي في صناعة المتفجرات كنوع من المساعدة ،وفي لقاء سايكس بوايزمان اقترح أن تكون فلسطين لليهود تحت حكم فرنسي بريطاني والمقدسات تحت إدارة دولية وبعد تأكيدات سايكس في إيجاد حلف أنجلو فرنسي متحالف مع اليهود والعرب والأرمن لإفشال القومية الإسلامية كانت الصحافة تتحدث عن سباق ألماني بريطاني لدعم الصهيونية ،وقد نجح البريطانيون في جمع اليهود والأرمن ثم عملوا على ضم العرب وأقنع سايكس الجمعيات السرية العربية بضرورة التحالف مع الصهيونية أو على الأقل القبول بها حتى لا تؤيد المانيا في الحرب فوافقوا على ذلك ، واجتمع كلايتون مع ممثلي عرب سوريه بالقاهرة وأخبرهم بأن اليهود يرغبون بموطن لهم في فلسطين لكن ليست لديهم النية في إقامة دولة يهودية هناك فوافق عرب سوريه على ذلك ،وكان الشريف حسين رغم تحالفه مع البريطانيين إلا أنه رفض مشروع توطين اليهود ولهذا قال البريطانيون وقتها : الملك حسين انغمس في أحلام طائشة عن الفتح لكن تراجع الدعم البريطاني له سيتركه تحت رحمة ابن سعود والموجه الصاعدة للحركة الوهابية
مصير سوريه ولبنان
غزا اللنبي سورية بخطة تقوم على الخداع حتى انتصر في المعركة وقيل وقتها إنه انتصر بمعركة هرمجدون التوراه وقامت بريطانيا بصناعة أعلام للثورة العربية وسمحت برفعها في فلسطين وسوريه (للإيحاء بأن ما حدث عبارة عن إستقلال وتحرر وليس غزواً بريطانياً) ،وفي دمشق اخبر اللنبي الملك فيصل بأن سوريه ستكون تحت الحماية الفرنسية تنفيذاً للوعد البريطاني وفق -اتفاقية سايكس بيكو” فرد فيصل بأنه كان يعلم بموضوع فلسطين لليهود ولم يعلم بان سوريه للفرنسيين وكانت بريطانيا ترى تسليم الساحل (لبنان واللاذقية) للحكم الفرنسي المباشر والداخل أي دمشق وحمص وحلب للعرب لكن تحت الانتداب الفرنسي فاعترض فيصل كيف يكون هناك دولة بلا ميناء؟ وكان البريطانيون يدعمون رفض فيصل للفرنسيين وفيما بعد سيدعم البريطانيون حركة عربية مسلحة ضد الفرنسيين حتى تصبح سورية بريطانية ،أما لبنان فكانت جزءاً من سورية عدا منطقة الموارنة المسيحيين فهذه المنطقة كانت إقليماً منفصلاً يحكمه تبعاً لإتفاق وضع عام 1864م حاكم عسكري مسيحي مرتبط مباشرة بحكومة الباب العالي لكنه ايضاً ملزم بإستشارة ست دول أوروبية قبل التصرف .. وبعد وضع سوريه تحت الإنتداب الفرنسي سارعت الى إقتطاع جزء من سوريه (بيروت - صيدا - البقاع - صور) وضمه الى منطقة الموارنة المسيحيين وسميت لبنان الكبير.
كشف المؤامرة
اندلعت الثورة البلشفية في روسيا في 1917م وذلك أدى إلى خروج روسيا من الحرب وقررت روسيا وقتها فضح الحلفاء ونشرت نصوص «إتفاقية سايكس بيكو» لتقسيم المنطقة فوزعت الصحف على مستوى كبير وكان من نتائج النشر صدمة كبيرة لدى الشارع العربي وحينها اتجهت بريطانيا الى اجراء بعض التعديلات على خطة التقسيم كإقناع فرنسا بضرورة منح فيصل ميناء على البحر المتوسط (اللاذقية) لكسبه بعد نشر المؤامرة ضد العرب وكان من ضمن نتائج كشف المؤامرة استدعاء الأمريكي ليصبح طرفاً في الحرب الى جانب الحلفاء وكان هناك رأي بضرورة وضع إتفاق تقاسم جديد إلا أن فرنسا رفضت ،وحاول سايكس اقناع الفرنسيين بان الاتفاق لم يعد صالحاً للتطبيق فرفضوا ثم عرض عليهم الانسحاب من كل المنطقة العربية عدا لبنان وتعويضهم ببلاد الاتراك والأرمن.
وقد تآمر البريطانيون على الفرنسيين بمساعدة من الأمريكيين وكان الهدف البريطاني إخراج الفرنسيين من سورية ولتحقيق ذلك اتبع البريطانيون حيلة إعلامية تقوم على تسريب وثائق عن دخول الجيش البريطاني الى سوريه تؤكد أن من دخلها قبل الجيش البريطاني هم العرب انفسهم (تقول المذكرة ان ما حدث كان عبارة عن انتفاضة وان سوريه حررت نفسها بنفسها وانه سيكون من المناقض للمبادئ المصرح بها من قبل الديمقراطيات الغربية محاولة إعادة فرض حكم أجنبي عليها)
وبحضور الرئيس الأمريكي ويلسون جرت مفاوضات للسلام وأحضر البريطانيون الملك فيصل من سورية لتأكيد استقلال بلاده والحصول على دعم لخروج الفرنسيين الذين قالوا إن فيصل مدين للبريطانيين فهم من ينفقون عليه ولا يتحرك الا بضابط ارتباط بريطاني هو لورنس وكانت بريطانيا قد أمنت وجودها بايران والعراق والخليج والجزيرة ومصر وفلسطين ولم يبق الا سوريه خرجت اليها اللجنة بعد أن رفضت مشاركة فرنسيين بها وكان الضباط البريطانيين هم الذين يختارون من سيدلي بالشهادة،وكان هناك مقترح بأن تكون فلسطين تحت الانتداب الأمريكي ولم تتحمس أمريكا لذلك بل اقترحت ان يكون الانتداب لعصبة الأمم مع حكم الدردنيل والقسطنطينة وارادت بريطانيا باقتراح الانتداب الأمريكي توريط أمريكا بتسوية الشرق الأوسط ،ففي فلسطين يضمن دعمها للتسوية المستفيدة منها بريطانيا وفي حكم القسطنطينية والدردنيل تضمن مواجهة أمريكية ضد أي توسع روسي (منطقة تركيا مهمة جداً لأمريكا وبريطانيا وفرنسا ضد أي توسع روسي) ،وكان لويد جورج (رئيس وزراء بريطانيا) كان يطالب بأن تحكم بريطانيا فلسطين من دان حتى بئر السبع بحسب ما تحدده مقولة توراتية قديمة عن أرض إسرائيل لم يعلم اين موقع دان بحث عنها في اطلس انجيلي وبعد سنه استطاع اللنبي ان يخبره بموقعها ولهذا تم تمديد حدود فلسطين الى الشمال لتشمل دان.
شكل الخارطة 1919م
الى هنا كان قد تم تشكيل خارطة الشرق الأوسط حسب الآتي :
العراق على أساس إغريقي فهي بلاد الرافدين أما سورية الكبرى فقد جرى تقسيمها الى ثلاث دول لبنان وسوريه وفلسطين ،ثم تم منح سوريه ميناء على البحر المتوسط وتوسيع مساحة لبنان ،أما الجزيرة العربية تم منح كل نجد للملك عبدالعزيز الذي كان مسيطراً عليها وضم اليه إمارة آل شمر والسماح له بالتوسع نحو عسير السراة فهو يتقاضى معونة مالية شهرية وخاضع للحماية البريطانية،وأما الحجاز للملك الحسين الذي يتقاضى معونة مالية شهرية ،وإبنه فيصل عين حاكماً لسوريه ،فيما الكويت دولة تحظى بالرعاية ولا يمكن لابن سعود ضمها لا هي ولا قطر ولا عمان ولا عدن .. أما اليمن المستقل فالخلاف مع الإمام يحيى لم يحسم بعد (صراع سيظل مفتوحاً) في حين ظلت مصر تحت الحماية البريطانية وتضم السودان اليها..
أما الأردن فحتى 1920م لم يكن هناك إلا قبائل بدوية تتصارع فيما بينها ضمن منطقة جغرافية هي إمتداد للجزيرة العربية وتاريخياً هي جزء من أرض الكتاب المقدس (كما قال البريطانيون) ،وفي 1920م دخل الجيش الفرنسي دمشق بعد محاولات فيصل مقاومتهم بشدة لكن البريطانيين تخلوا عنه وشعرت بريطانيا في فلسطين أن منطقة خالية تضم قبائل بدوية قد تحتلها فرنسا التي رأت تصعيد موقفها الرافض لتسليم فلسطين للحركة الصهيونية واستندت الى نظريات دينية تقوم على ان فلسطين للمسيحيين ،ودخلت بريطاينا وفرنسا في مفاوضات لرسم حدود فلسطين وسوريه ولبنان وكانت سوريه وفلسطين كلمتين ملتبستين بحيث لا يعرف أين تبدأ الأولى وأين تنتهي الثانية وبعد تصلب الموقف الفرنسي تم ضم منابع نهري اليرموك والأردن لصالح سورية ولبنان ،وكانت منطقة عبر الأردن تحت حكم فيصل ومادام فرنسا ورثت سورية وطردت فيصل فكل ما كان تحت يده لها وقد حكم تلك المنطقة ضابط بريطاني يُدعى برونتون يرفع التقارير ويقول ان فكرة ضبط بلد نصف سكانه من لصوص النهب الهمجيين من خلال منحه حكما ذاتيا وبضعة مستشارين بريطانيين ربما يبدو جذابا كتجربة وبرز ضابط بريطاني يُدعى سومرسيت وقال انه بعد وقف غارات القبائل على الفرنسيين يجب ضرب القبائل بعضها ببعض ورفع الضابط معلومات تؤكد خشيته من ان تشن فرنسا حملة صليبية لضم منطقة عبر الأردن وكذلك فلسطين لسوريه الكبرى على أساس معاد للصهيونية وربما تعد فرنسا العرب بأنهم اذا دعموها ستضع حداً للصهيونية وكان الموقف وقتها ضد بريطانيا فالشعوب العربية ثارت في العراق ومصر بسبب حديث اليهود عن فلسطين وتحركاتهم المعلنة التي كانت تضر بالبريطانيين ولهذا كتب الضابط قائلاً : لو ان اليهود يبقون أفواههم السخيفة مغلقة فلسوف يشترون البلد بأكمله
التقسيم النهائي 1922م
يقول تشرشل (سيصبح وزيراً للمستعمرات البريطانية بعد هذه الفكرة) في مذكرة الى مجلس الوزراء : لقد أدى السير العاثر للأمور في الشرق الأوسط (بسبب الثورات) إلى جعلنا خارج نطاق تعاطف جميع القوى الأربعة ذات النفوذ المحلي في الشرق الأوسط وهم : الروس اليونانيون العرب والأتراك ... والسياسة الناجحة تكمن في تقسيم القوى المحلية بحيث إن كان لنا بعض الخصوم يكون لنا في نفس الوقت بعض الأصدقاء مهما كانوا ولطالما كان هذا ما فعلناه طوال تاريخنا في الماضي فعندما كانت تركيا عدونا كانت روسيا صديقتنا والعكس ورأى تشرشل ان روسيا لينين ليست مع بريطانيا ولا اليونان كذلك .. والحل في التحالف مع العرب والأتراك وبدوره أيد رئيس الأركان تلك المقترحات.
قبل ذلك عقد مؤتمر سان ريمو في إيطاليا وذلك في العام 1920م وكان من نتائجه اخضاع الأراضي العربية للانتدابين الفرنسي والبريطاني وتقسيم سوريه الكبرى لتصبح فلسطين تحت الانتداب البريطاني مع تنفيذ وعد بلفور وتضم الموصل الى العراق تحت سلطة الانتداب البريطاني وفي العام 1921م عقد مؤتمر في القاهرة ضم عشرات الضباط والخبراء الإنجليز وخرج المؤتمر باستراتيجية تقوم على الاعتماد على القوة الجوية في إخضاع المنطقة عسكرياً وتم تحديد مطارات وقواعد جوية تضمن السيطرة على كل البلدان وذلك تجنباً لخسائر القوات على الأرض ،وتم إقرار تسليم العراق لفيصل بن الحسين (كان وقتها قد طرد من سوريه على يد الفرنسيين) وتكليف لجنة سياسية لترتيب ذلك ،وتسليم شرق الأردن الى شقيقه عبدالله ضمن صفقة تسليمه المنطقة مقابل امتناعه عن مهاجمة سوريه الفرنسية (فيما بعد ستصبح الصفقة حتى يضمن أمن الصهاينة في فلسطين)
إقامة كيان يهودي غرب نهر الأردن (فلسطين) وعربي شرق نهر الأردن (الأردن) وأبدى البعض مخاوفه من أن تصبح الأردن قاعدة لمهاجمة الصهاينة فعمل تشرشل على أن يكون الحاكم في الأردن عربياً لكنه غير فلسطيني وكانت نظرة تشرشل ان عبدالله (جد الملك الحالي للأردن) سيمنع الحركات المناهضة للصهيونية والفرنسيين وقال لورنس : «ان عبدالله سيمثل عميلاً بريطانياً مثالياً في المنطقة وذلك لأنه سيعتمد على بقائه على الحكومة البريطانية».. وكانت المشكلة في موقف ابن سعود الذي سيعارض وجود حكومتين هاشميتين في العراق والأردن وقرر تشرشل رفع معونة ابن سعود الى 100الف جنيه إسترليني ،وتولت اللجنة السياسية بمؤتمر الشرق الأوسط بالقاهرة ترتيب تعيين فيصل ملكاً على العراق حيث اقتضت الخطة التفصيلية وضع جدول زمني لترشيح فيصل لعرش العراق تبدأ بأن يسافر فيصل إلى مكة ومن هناك يرسل برقيات الى الشخصيات القيادية في العراق وسيقول في رسالته لهم انه بات يلح عليه بعض الأصدقاء لكي يأتي الى العراق وأنه بعد مناقشة المسألة مع والده واخوته قرر أن يعرض خدماته على شعب العراق.
وقتها كان هناك مرشح من البصرة وآخر من بغداد وكانت حظوظ مرشح البصرة كبيرة جداً وعندما علمت بريطانيا بذلك اضطرت في النهاية الى نفيه خارج العراق وظلت بريطانيا تتظاهر بالحياد وطلب كوكس من فيصل ان يدعو لحملة دعم شعبي حتى تقول بريطانيا إنها قبلت حكم الشعب وبعد ذلك أعلن مجلس الوزراء تعيين فيصل حاكماً واجري الاستفتاء واعلن بعد أيام ان الشعب اختاره وفي أغسطس تم الاحتفال بتتويجه حاكماً وبعد عام حاول فيصل المطالبة بالاستقلال فتعرض للإهانة وعندما فكر البريطانيون بالرحيل جاءت نصيحة بضرورة البقاء نظراً لوجود إحتياطات النفط الكبيرة .
ترتيبات بعد التقسيم :
في 1922م وبعد التذمر العربي من البريطانيين والثورات جرت مناقشة إمكانية إنشاء مشروع كونفدرالية بين الدول العربية ضمن التوجه البريطاني الى إدارة المنطقة من خلال أدوات محلية ثم اعتبر ذلك المشروع مجرد مغامرة لا يمكن تنفيذها فكان التوجه بالعمل على ترسيخ الحدود المصطنعة وتم إرغام ابن سعود على تعيين حدوده مع العراق والكويت وذلك في مؤتمر العقير شرقي السعودية حيث رسم السير بيرسي كوكس الحدود بين العراق والسعودية وبين العراق والكويت وبنفس الأسلوب رسم الحدود بين سوريه والعراق وبين سوريه والأردن وأعلن شكلياً إستقلال مصر لامتصاص غضب المصريين ،وكان اليهود الصهاينة يرفضون التقسيم الأخير لأنه فصل الأردن عن فلسطين وضم بحيرات المياه والأنهار لسورية ولبنان الفرنسيتين.
بدأت بريطانيا تهدئ من روع العرب الرافضين للهجرة اليهودية الى فلسطين وكانت الدعاية البريطانية تؤكد ان مجيئ اليهود له فائدة اقتصادية كبيرة وأنهم سيقومون بتعمير الأرض القاحلة ولن يتدخلوا بأرض الفلسطينيين الذين كانوا يعرضون أراضي واسعة للبيع والكل تورط في ذلك لدرجة أن اليهود لم يعودوا يمتلكون المال الكافي لشراء كل المعروض عليهم من الأراضي.
ولمحاصرة روسيا أهتمت بريطانيا بترتيب أوضاع العراق وإيران وأفغانستان فيما كانت سوريه تابعه لفرنسا التي بدورها أعادت تطبيع العلاقات مع تركيا (الجديدة) ودعمتها بالسلاح والمال حتى تقف امام روسيا ،ومن ضمن الترتيبات كذلك العمل على احتواء الامام يحيى في اليمن من خلال دفعه إلى توقيع إتفاقية حماية ليصبح اليمن المستقل ضمن المحميات البريطانية أو اتخاذ خطوات اقتصادية وعسكرية تؤدي الى اجباره على الموافقة للشروط البريطانية المتمثلة في انتزاع اعتراف يمني بالوجود البريطاني في عدن وكان لليمن أهمية تنبع من موقعه الحيوي فقد ظل اليمن «في بؤرة التقاطعات والتشابكات الجغرافية الاستراتيجية لمجموعة من البحار والممرات ذات الأهمية العالمية وإطلالته على الجبهات المتعددة بما في ذلك الجزر المتحكمة بطرق الملاحة الدولية تمنحه أهمية مركبة محلية وإقليمية ودولية»
تقسيم الجزيرة العربية وتشكيل اليمن الحالي
حاولت بريطانيا إبقاء الجزيرة العربية تحت نفوذها وبالتالي إخراجها من التفاهمات مع بقية شركاء الحرب الى جانبها ،واتسمت السياسية البريطانية في الجزيرة بالإزدواجية فعندما شعرت بريطانيا بضرورة التخلص من الملك حسين في الحجاز الذي يطالبها باستمرار في تنفيذ تعهداتها بشأن المملكة العربية منحت ابن سعود الضوء الأخضر لضم الحجاز الى مملكته ومن ثم ضغطت على الادريسي في عسير تهامة لطلب حماية ابن سعود خشية أن تصل قوات الامام يحيى الى جيزان وبالتالي أصبحت كلاً من الحجاز وعسير تهامة ضمن المملكة الحجازية النجدية وملحقاتها في 1926م.
وهكذا عملت بريطانيا على السماح لـ عبدالعزيز بالتوسع وهذا خلافاً للسياسة المعتمدة التي كانت تقتضي تقسيم الجزيرة الى عدة دويلات وإمارات إلا أن ابن سعود اثبت اخلاصه الكامل لبريطانيا ما دفعها الى استخدامه للتخلص من مناهضيها فدفعت بالملك النجدي نحو عسير من اجل الاصطدام بالإمام يحيى ،وعلى ضوء ذلك الدور كان ابن سعود يحقق مكاسب على الأرض من خلال التوسع في مناطق تسمح بريطانيا بضمها الى مملكته وهو ما لم تسمح به للإمام يحيى الذي كان متحمساً لحقوق اليمن التاريخية «لكن وضع الإمام لا يسمح له بفعل شيء في هذا الأمر حيث لم يوقع إتفاقية صداقة مع بريطانيا» وسنتعرف على ذلك في الفصول القادمة وكيف أن بريطانيا ساهمت في تكوين اليمن الحالي من خلال فصل عسير ونجران وجيزان عن الجسد اليمني وكذلك فصل ظفار ناهيك عن محاولات تقسيم اليمن الحالي الى شمال وجنوب وتقسيم الجنوب الى محميات شرقية ومحميات غربية وتقسيم المحميات الشرقية الى عدة مشيخات وسلطنات وكذلك المحميات الغربية ناهيك عن مشروع احتلال تعز وتأسيس مستعمرة الساحل الغربي.
كانت الخارجية البريطانية قد قررت استخدام الخطين الأزرق والبنفسجي اذا اقتضت الضرورة كحدود للمملكة السعودية في 1932م وقامت بتثبت الخطين بعد ذلك إلا انها تراجعت اثناء المفاوضات مع ابن سعود لاسيما فيما يتعلق بالخط الأزرق الذي يحدد الحدود بين السعودية وامارات الخليج وهكذا تمكنت السعودية من التوسع نحو ما يعرف اليوم بالإمارات وقطر وعمان بعد ان كانت قد تمكنت من ضم أراضي تابعة للكويت في وقت سابق بموافقة بريطانية ،ففي مفاوضات العقير 1922م وبخ المندوب السامي بيرسي كوكس سلطان نجد عبدالعزيز بن سعود وبحسب من قام بالترجمة وهو ديكسون فقد رأى كوكس الى تصرفات ابن سعود بانها صبيانية ثم سارع ابن سعود للاعتذار ووصف كوكس بأنه بمثابة أبيه وأمه اللذين انجباه ورفعاه من الحضيض الى مقامه الحالي وأنه مستعد للتنازل عن نصف مملكته بل عن كلها اذا أمر السير بيرسي كوكس بذلك وحينها أخذ كوكس قلماً أحمر ورسم على خارطة الحدود من الخليج الى شرقي الأردن وبعد ذلك طلب ابن سعود لقاء كوكس على انفراد ثم قال له لقد حرمتموني نصف مملكتي من الأفضل ان تأخذوها كلها وتسمحوا لي بالاستقالة وحينها اجهش ابن سعود بالبكاء فتأثر كوكس وقال له سأعطيك ثلثي أراضي الكويت وهكذا حافظت بريطانيا على بقاء امارات الخليج من الكويت حتى عمان بعد ان سمحت للسعودية للتوسع على حساب الكويت والى حد ما قطر وما يعرف اليوم بالإمارات العربية وكذلك سلطنة عمان وكان أكبر توسع جغرافي حققته السعودية بدعم بريطاني على حساب اليمن من خلال ضم أراضي واسعة من الربع الخالي حتى الوديعة والشرورة وجيزان ونجران وعسير وقررت بريطانيا كذلك ضم ظفار الى سلطنة عمان قبل أن تعمل على تكريس واقع تقسيم ما تبقى من اليمن الى شمال وجنوب ثم تعمل على تقسيم الشمال الى شمال الشمال وجنوب الشمال وكذلك تقسيم الجنوب الى مناطق شرقية ومناطق غربية وكل ذلك سنتعرف عليه في الفصول القادمة وكل ذلك يجعلنا نؤكد أن اليمن كان الأكثر ضرراً من بين دول المنطقة من مشاريع التقسيم والتفكيك البريطانية فقد خسر ما يعادل ضعف مساحته الحالية بل وأكثر من ذلك ولعل أسباب التوجه البريطاني نحو الحاق الضرر باليمن من خلال تقسيمه وتفكيكه وتفتيته :
اليمن مركز الثقل الديمغرافي بالجزيرة العربية وبقائه موحداً يجعله القوة المهيمنة على الجزيرة العربية وحينها لن تضمن بريطانيا بقاء اليمن تحت نفوذها لامتلاكه كل عوامل القوة من بشر وأرض وثروات وموقع وبحر وإرث تاريخي وحضاري.
الإمام يحيى رفض الخضوع للشروط البريطانية ولم يقبل بالتنازل عن عدن والمحميات رغم العروض البريطانية منها السماح له باستعادة عسير اذا تنازل عن عدن ،وفي الحقيقة أن لبريطانيا تجربة مع الائمة منذ الامام المنصور بالله علي الذي رفض منحها امتيازات عسكرية نهاية القرن الثامن عشر فاتجهت الى سلطان لحج وعقدت معه اتفاقية حماية في 1802م ،وحاولت بريطانيا معاقبة صنعاء على رفضها الخضوع لها فاعتدت على الحديدة ودفعت بالحملات الوهابية الى التوسع في تهامة، وفي 1820م اعتدت بريطانيا بالقصف والتدمير على ميناء المخا وحاولت احتلاله قبل ان تتمكن المقاومة اليمنية من التصدي لتلك المحاولة وهددت بريطانيا الامام المهدي عبدالله بالقوة العسكرية إن لم يخضع لها لن تتمكن بريطانيا من اليمن إلا عندما يكون مُقسماً ومفككاً
وهذه القناعة ترسخت منذ أول علاقة يمنية بريطانية ويؤكد إيل ماكرو أن التقارير البريطانية كانت تشير الى إمكانية احتلال عدن وبناء ميناء فيها لاسيما وسلطنة لحج مستقلة عن اليمن بمعنى أن خروج لحج عن الدولة المركزية اليمنية وقتها سيسهل عملية احتلال عدن فمعاهدة 1802م كانت مقدمة لاحتلال عدن
كان لبريطانيا نظرة خاصة للقبائل اليمنية وتحديداً أبناء الهضبة الجبلية ورأت ضرورة عزلهم وحصارهم فنزعة الاستقلال لديهم لا يمكن القضاء عليها ولهذا فالحل في تقسيم اليمن بعد فصل أطرافه عنه ومن ثم اعتبار اليمن هو المنطقة الجبلية في شماله الغربي فقط.