ما بعـد الاستقلال :عدن.. تحديات داخلية ومؤامرات خارجية (1)
علي الشراعي
في صباح الخميس 30نوفمبر 1967م أعلن قيام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية كدولة مستقلة بعد رحيل آخر جندي بريطاني في الساعة الثالثة من بعد ظهر يوم 29 نوفمبر 1967م.
وفي يوم الاستقلال نفسه أصدرت القيادة العامة للتنظيم السياسي للجبهة القومية بيانا أعلنت فيه أن الجبهة القومية هي السلطة العليا في الجمهورية وأعلن البيان عن اتباع النظام الرئاسي للحكم وعن تعيين قحطان الشعبي أول رئيس للجمهورية لمدة سنتين وكلف الرئيس بتشكيل أول حكومة وطنية.
مخلفات المحتل
خلف المحتل الانجليزي تركة ثقيلة ومشاكل عديدة وصعوبات بالغة التعقيد تستلزم وقتا طويلا لحلها ولا يمكن لتغير ولو جزئي في البنى الموروثة من الماضي وإنشاء بنى جديدة أن يتم دفعة واحدة نظرا لأن ظروف الانطلاق ستكون غير مواتية بصفة خاصة..
فالوضع الاقتصادي للجنوب في مرحلة الاستعمار الانجليزي والوضع الدولي الصعب وإغلاق قناة السويس في عام 1967م وكذلك القضاء على القاعدة الحربية الانجليزية في عدن أدى إلى ظهور صعوبات اقتصادية متعددة فإغلاق قناة السويس أدى إلى انخفاض عدد السفن المارة في ميناء عدن حيث انخفضت من 520 سفينة تقريبا قبل العدوان الصهيوني في 5يونيو 1967م إلى عشرات السفن بعد العدوان وعليه فان ميناء عدن الذي كان يحقق سنويا أرباحا صافية تقدر بمبلغ 500 ألف جنية استرليني فقد بلغت خسائره في عامي 1967- 1968م ما يساوى 700 الف جنية استرليني ونتيجة لانسحاب القوات الإنجليزية المسلحة حرم قطاعا كبيرا من موظفي القاعدة العسكرية من العمل وكذلك أعدادا كبيرة من العاملين في التجارة والخدمات وبلغ عدد العاطلين عن العمل ما يقرب من 25 ألف شخص وعانت اليمن الجنوبية حديثة الاستقلال من نقصان شديد في الموارد المالية فقد أوقفت الحكومة الإنجليزية مساعداتها المالية لجنوب اليمن ابتداء من مايو 1968م في الوقت الذي انخفض الدخل الضريبي انخفاضا شديدا وذلك نتيجة للركود الاقتصادي وانخفاض دخل السكان..
وتعبيرا عن احتجاجها ضد موقف انجلترا منعت حكومة عدن تصفية النفط العائد للشركات الإنجليزية في الخليج العربي في مصافي النفط في عدن ولهذا السبب عملت مصافى النفط في البريقة بما يعادل 50% من طاقتها الانتاجية مع العلم إن جزءا من منشآت مصافي عبدان قد نقلتها شركة النفط البريطانية إلى عدن بعد تأميم البترول الايراني الذي قام به مصدق..
مما دفع باتخاذ قرارات اقتصادية في المؤتمر الرابع للجبهة القومية الذي انعقد في مارس 1968م منها قرار يقضى بسرعة تطبيق الاصلاح لصالح العمال الزراعيين والفلاحين المعدمين ودعا المؤتمر إلى توجيه القوى لتحرير الاقتصاد من الاحتكارات وتحويل الاقتصاد من اقتصاد خدمات الى اقتصاد يعتمد على الانتاج الصناعي كما دعا المؤتمر إلى بناء القطاع الحكومي الذي يجب ان يلعب دورا قياديا في التطور الاقتصادي.
الصراع الداخلي
بعد حصول الجنوب اليمني على الاستقلال وتحول الجبهة القومية إلى التنظيم السياسي الحاكم أعلنت الجبهة أن المنظمات السياسية الأخرى غير قانونية بما في ذلك جبهة تحرير الجنوب اليمني المحتل ورابطة الجنوب العربي اللتان عكستا مصالح الطبقات المعادية للثورة ودخلت معهما الجبهة القومية قبل الاستقلال في مواجهات سياسية وعسكرية كما شمل قرار المنع تنظيمات أخرى وبذلك شكلت مسألة اختيار الطريق اللاحق للتطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي للبلاد طابعا استثنائيا حادا حاولت قيادة الجبهة القومية برئاسة قحطان الشعبي اتخاذ مواقف متوازنة بين مختلف التجمعات والتيارات السياسية في جنوب اليمن الا أن التقلبات لم تزيد الوضع الا تعقيدا وعرقلت حل القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
فمن ديسمبر 1967م إلى فبراير 1968م شهدت جلسات القيادة العامة للجبهة القومية مناقشات حادة وعاصفة حول مستقبل الثورة وبمطالبة الجناح اليسارى في الجبهة القومية طرد من الجيش في نهاية يناير 1968م ما يقارب 35 ضابطا من حملة الرتب العالية المعروفين بارتباطاتهم بالرجعية والسلاطين ومثل هذا الإجراء زاد من حدة توتر الوضع السياسي الداخلي في البلاد اضافة أنه في بداية 1968م أصدرت محكمة أمن الدولة حكمها بإعدام عدد من حكام الجنوب اليمني المتعاونين مع المستعمر الإنجليزي وفيما بعد استبدل حكم الإعدام بالسجن الطويل المدى فيما هددت الحكومة الإنجليزية بقطع العلاقات الدبلوماسية مع جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية إن هي لم توقف المحاكمات غير أن حكومة عدن لم تخضع لهذا الابتزاز.
وبذلك دخلت الجمهورية منذ الشهر الأول لميلادها في دوامة صراعات حزبية داخلية وتمردات ومواجهات انتهى فصلها الأول بإقصاء قحطان الشعبي من منصب رئيس الجمهورية في يونيو1969م.
الزحف الروسي
في 27 فبراير 1968م تم طرد جميع الخبراء الانجليز من الجيش والأسطول والطيران لاتهامهم بالتجسس وتنفيذ توجيهات السفارة الانجليزية وقد تم استئجار هؤلاء الخبراء قبل الاستقلال من قبل ما يسمى حكومة اتحاد الجنوب العربي
وعلى أثر الاطاحة بالرئيس قحطان الشعبي وصعود انصار الراديكالية بالجبهة القومية ذات الميول السوفيتي إلى السلطة ومنذ بدء هذا التحول بدأ زحف النفوذ الروسي إلى عدن الذي أصبح وخلال أقل من عامين مسيطرا على كل مفاصل الدولة في عدن وعلى وجه الخصوص المفاصل الاقتصادية والسياسية والعسكرية والأمنية.
وفشلت بعد الاستقلال كل المحاولات الأمريكية- السعودية لاحتواء النظام في ما كان يعرف بجنوب اليمن آنذاك وابعاده عن الارتباط الكامل بالاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية فقد لعبت موسكو وعبر اجهزتها السياسية والعسكرية والأمنية دورا كبيرا في افشال كل محاولات التقارب والتعاون بين عدن والرياض وذلك لمنع تسرب أي نفوذ أمريكي وعبر السعودية إلى عدن التي وصل اليها النفوذ السوفيتي بعد الاستقلال واعتبرها أحد مواقعه الاستراتيجية في حربه الباردة مع الولايات المتحدة الأمريكية .
العداء الأمريكي
منذ البداية للاستقلال وقفت أمريكا موقفا عدائيا حيال حكومة عدن واثناء التمرد للقوى اليمينية في 20 مارس1968م تسلم المتمردون من السفارة الأمريكية المساعدات الأمر الذي أدى فيما بعد الى طرد القنصل العسكري الأمريكي من عدن واتهمت وزارة خارجية عدن أمريكا بدعم المشتركين في التمرد والانتفاضة المناوئة للحكومة بالأسلحة وتعبيرا عن احتجاجاتها ضد السياسة الامريكية وتدخلاتها ودعمها للكيان الصهيوني فقد قطعت جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية علاقاتها الدبلوماسية مع واشنطن .
واكد المجتمعون مرة أخرى في المؤتمر الرابع للجبهة القومية بان الشعب اليمني جزء لا يتجزأ من الأمة العربية ولذلك يتوجب عليه دعم حركات التحرر الوطني الموجهة ضد الإمبريالية والرجعية في شبة الجزيرة العربية والمشاركة بنشاط في النضال ضد الاستعمار والإمبريالية والصهيونية كما دعا المؤتمر دعم الكفاح المسلح للشعب العربي الفلسطيني وبذلك فشلت جهود واشنطن السياسية باحتواء جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية الى استراتيجيتها خلال صراعها مع الاتحاد السوفيتي آنذاك .
الوحدة اليمنية
لقد حاولت بريطانيا في خلافها مع حكومة صنعاء أن تعمد منذ البدء إلى تصوير الخلاف في شكله البدائي أي على شكل (مسألة نزاع على الحدود) حتى تبرر الاحتلال وتقلص أهمية النزاع في حين أن صنعاء كانت تتهم انجلترا باحتلال جزء من التراب الوطني اطلقت عليه اسم (الجنوب المحتل) وقد حاولت إنجلترا منذ احتلالها لعدن 1839م ان تستغل الصعوبات الداخلية لحكومة صنعاء (السيطرة العثمانية الثانية والحرب الاهلية والصراع على السلطة .... الخ) من أجل فرض حل لهذا الخلاف إلا أن محاولاتها باءت بالفشل طيلة 129عاما من احتلالها لجنوب اليمن- وهذه السياسة في تقسيم اليمن بمسميات المحتل البريطاني الجنوب العربي نشهده اليوم لدى اطراف عميلة لدول العدوان 2015م بمحاولات يائسة نحو تجزئه اليمن واعتبار جنوب الوطن ليس جزءا من الوطن الأم وذلك يخدم مطامع المحتلين والغزاة خاصة بمحافظتي حضرموت والمهرة فمع الاستقلال اكتشف البترول فيهما مما افقد المحتل لتلك الثروة وايجاد سلطة عميلة له بعد الاستقلال )
ففي المؤتمر الرابع للجبهة القومية الذي جرت أعماله على أراضي الجنوب اليمني المستقل في زنجبار محافظة أبين من 2 – 8 مارس 1968م وفي ختامه صدرت العديد من القرارات وفيما يتعلق بالعلاقة مع شمال الوطن اقترح المؤتمر ضرورة إقامة الاتصالات المباشرة مع القوى التقدمية في الشمال اليمني بغرض وحدة قوى شطري اليمن في النضال الثوري ودعا المؤتمر دعم الثورة في الشمال الأمر الذي يهيئ أرضية الواقع العملي لتحقيق الوحدة اليمنية.