لا يجوز التحكيم في أموال الوقف
التحكيم في الوقف من الحيل والوسائل التي ابتكرتها ثقافة المغالطة والاحتيال الدخيلة على مجتمعنا اليمني
الوقف مال الله تعالى ، ومن هذا المنطلق ، للوقف خصوصيته التي تميزه عن غيره من الأموال الأخرى ،
ومن مظاهر خصوصية الوقف عدم جواز التصالح عليه أو التحكيم فيه، ولا ريب أن التحكيم في الوقف من الحيل والوسائل التي ابتكرتها ثقافة المغالطة والاحتيال الدخيلة على مجتمعنا اليمني ، وقاعدة عدم جواز التحكيم في أموال الوقف قاعدة عامة مجردة مجملة تحتاج إلى شرح وبيان وتأصيل ، ولذلك فقد اخترنا التعليق على الحكم الصادر من الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 27/12/2010م في القضية المدنية رقم (41612) لسنة 1431هـ وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم أن مزارعين اختلفا على أشجار نابتة في رهق ملتصق وتابع لأراضي زراعية مملوكة للوقف ، فقام المزارعان بتحكيم شخص لتحديد ملكية الأشجار والأراضي النابتة فيها الأشجار ؛ وفي أثناء إجراءات التحكيم لم يفصح الطرفان عن ملكية الوقف حيث كان يبدو أنهما يسعيان إلى ثبوت حيازتهما للرهق بمعزل عن أرض الوقف حتى يكون حكم التحكيم وثيقة تثبت ملكيتهما للرهق ؛ وحسبما ورد بحكم التحكيم فقد خاض الطرفان في دعوى الملكية فكل طرف ادعى ملكية الأرض النابتة فيها الأشجار ، وقد توصل المحكم إلى الحكم (بقنوع الطرفين عن محل الخلاف لعجز كل منهما عن إثبات حيازته وثبوته وتملكه أو تبعية الرهق لما هو تحت يده فلا يجوز لأي من الطرفين الاستئثار بالرهق لنفسه وعليهما القنوع منه ويبقى محل الخلاف مراهق لجريان الماء حسب عادته حالياً بطبيعته يصب إلى العبر ويتفرع منه إلى جميع المواضع ويتحمل كل طرف أغرامه ومصاريفه في النزاع) وعندما وجد الطرفان أن حكم المحكم لم يتناول ملكية الرهق حيث أبقى الرهق على حاله قام أحد الطرفين المتنازعين برفع دعوى بطلان حكم المحكم أمام محكمة الاستئناف المختصة وذكر في دعواه أن حكم المحكم لم يأخذ بأدلته والبراهين التي تثبت ملكيته لمحل النزاع فرد عليه خصمه أن دعوى البطلان لم تتضمن أية حالة من حالات بطلان حكم التحكيم المنصوص عليها في المادة (53) تحكيم ؛ وقد خلصت محكمة الاستئناف إلى الحكم برفض دعوى البطلان وتأييد حكم التحكيم ، فقام المحكوم عليه مدعي البطلان ، بالطعن في الحكم الاستئنافي أمام المحكمة العليا التي رفضت الطعن وأقرت الحكم ألاستئنافي ، وقد ورد في أسباب حكم المحكمة العليا (أنه قد ورد في أوراق القضية أن محل النزاع أرض وقف ولا يجوز التحكيم في الوقف كما هو معلوم ). وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الآتية :
الوجه الأول : مفهوم التحكيم في أموال الوقف :
هو أن يقوم متولي الوقف أو من في حكمه باختيار محكم أو محكمين للفصل في النزاع مع الغير على مال الوقف ، وقد يكون هذا الاختيار عن طريق تحرير وثيقة تحكيم مستقلة يتم التوقيع عليها من قبل متولي الوقف وحده أو يقوم بالتوقيع عليها متولي الوقف مع غريم الوقف ، كما قد يكون اختيار المحكم ضمن شرط يتم إدراجه أثناء تحرير عقد فيما بين الأوقاف والغير ؛ كما قد يكون هذا الاختيار بموجب لائحة توجب النص على أن يتم حسم الخلافات التي تحدث بشأن أموال الوقف عن طريق التحكيم.
الوجه الثاني : مخاطر التحكيم على مال الوقف :
معرفة هذه المخاطر لها أهميتها في معرفة خلفيات قاعدة عدم (جواز التحكيم في أموال الوقف) فمخاطر التحكيم على مال الوقف كثيرة يمكن الإشارة إلى بعضها على النحو الآتي :
- يخشى من التحكيم أن يتم التواطؤ بين أجير الوقف أو متولي الوقف وغريم الوقف حتى يكون حكم التحكيم لصالح غريم الوقف.
- التحكيم طريق غير رسمي للفصل في النزاعات وهو طريق استثنائي وغير نظامي للتقاضي.
- حكم التحكيم يختصر درجات التقاضي حيث تصبح درجة موضوعة واحدة فقط حيث تكون محكمة الاستئناف بمثابة محكمة قانون ويترتب على ذلك حرمان الوقف من درجة موضوع من درجات التقاضي.
- التحكيم في اليمن غالباً ما يسند إلى أشخاص أو جهات غير متخصصة مثل مشائخ وكبار مسؤولين، ولذلك لا يؤمن أن تكون أحكام هؤلاء مضرة بالوقف.
- التحكيم في اليمن يعتمد في الغالب على الأعراف القبلية ، ولا يراعي بعض المحكمين القواعد والأحكام القانونية ولذلك قد يكون التحكيم في مال الوقف مضراً من هذه الناحية.
- المحكمون عبارة عن أشخاص غير محترفين أو مهنيين في القضاء خاصة في اليمن ولذلك فإن أخطاء هؤلاء ليست نادرة.
- المحكمون يتعرضون لإغراءات وضغوط لاسيما في اليمن ، ولذلك يخشى أن تكون أحكامهم مضرة بالوقف.
- التحكيم الاختياري فكرته تقوم على أن مالك المال نفسه هو الذي يقوم باختيار المحكم للفصل في النزاع أما في الوقف فإن المال مال الله تبارك وتعالى فمتولي الوقف مجرد مدير يدير أموال الوقف فلا يملك التصرف في اموال الوقف بما في ذلك التحكيم الذي قد يكون في غير صالح الوقف خاصة أن التحكيم في مال الوقف دائر بين النفع والضرر ومتولي الوقف ممنوع من مباشرة هذا التصرف.
الوجه الثالث : موقف قانون التحكيم اليمني من التحكيم في مال الوقف :
أشار قانون التحكيم إلى منع التحكيم في مال الوقف حيث بينت المادة (5) تحكيم المسائل التي لا يجوز التحكيم فيها ؛ حيث قررت هذه المادة أنه لا يجوز التحكيم في الحدود واللعان وفسخ الزواج ورد القضاة ومخاصمتهم ومنازعات التنفيذ والمسائل التي لا يجوز فيها الصلح وكل ما يتعلق بالنظام العام، ومن خلال استقراء هذا النص القانوني نجد أنه قد قرر عدم جواز التحكيم في المسائل التي لا يجوز فيها الصلح ، والفقه الإسلامي يجمع على عدم جواز الصلح على مال الوقف لأن الصلح يتضمن إسقاط أو تنازل فلا يحق لمتولي الوقف إسقاط الوقف أو بعضه أو التنازل عنه لأن صلاحية متولي الوقف قاصرة على إدارة الوقف ورعايته وحمايته وليس إسقاطه أو التنازل عنه .
الوجه الرابع : موقف قانون الوقف اليمني وتوصيتنا للمشرع اليمني :
من خلال استعراض نصوص قانون الوقف لم نجد نصاً يصرح بعدم جواز الصلح أو التحكيم في مال الوقف وهذا ما يؤخذ على القانون ، ولذلك نوصي المشرع اليمني بتضمين قانون الوقف نصاً يصرح بعدم جواز الصلح أو التحكيم من أعيان الوقف حتى لا يكون الصلح أوالتحكيم ذريعة لضياع الوقف والعبث به.
الوجه الخامس: لماذا لم ينقض حكم المحكمة العليا حكم التحكيم في الوقف
من خلال المطالعة للحكم محل تعليقنا نجد أن الطرفين المتنازعين كانا يهدفان إلى تملك الرهق الخاص بمال الوقف عن طريق الادعاء بملكية الأشجار النابتة في الرهق ، ونجد أن الطرفين المتنازعين كانا حريصين على عدم ذكر أن الأرض التي يتبعها الرهق وقف فلم يبرز أحد الطرفين الوقفية إلا عند الطعن في الحكم الاستئنافي أمام المحكمة العليا ، ولذلك لم يدرك المحكم أو محكمة الاستئناف أن التحكيم قد وقع على مال وقف ، إضافة إلى أن حكم المحكم والحكم الاستئنافي لم يمسا حق الوقف بل أن حكم المحكم وكأنه لم يصدر أصلا ؛ لأنه قضى ببقاء الحال على ما هو عليه أي أنه لم يحكم بملكية أحد الطرفين المتنازعين على الوقف ؛ وربما أن المحكم كان يدرك أن الأرض وقف ويدرك مرامي وأهداف الطرفين المتنازعين في الاستيلاء على رهق الوقف ، وربما أيضاً أن المحكمة العليا وجدت حكم المحكم المؤيد بالحكم ألاستئنافي قد حكم أصلا لصالح الوقف حيث أنه قضى بعدم أحقية الطرفين في ملكية رهق الوقف لذلك لم تنقض المحكمة العليا ذلك الحكم والله أعلم.
# الأستاذ بكلية الشريعة والقانون
جامعة صنعاء