الاتحاد الأوروبي وتوظيف قضية اللاجئين
النخب السياسية والاقتصادية المتحكمة في مراكز صنع القرار في أمريكا والغرب غالبا ما تسعى لخلق الأزمات الدولية وتسخين جبهات الصراع ضد كل من تعتبرهم يهددون المصالح الأمريكية
على العالم، حيث تدفع الولايات المتحدة بالغرب إلى افتعال الأزمات السياسية والاقتصادية وتوظيف قضية طالبي اللجوء الإنساني إلى قضية سياسية بهدف توتير المناخات، وفرض عقوبات إضافية من قبل الاتحاد الأوروبي ضد بيلاروسيا تحت ادعاءات فتح مجالها الجوي وعبور اللاجئين القادمين من بلدان الشرق الأوسط الملتهبة بالصراعات المسلحة عبر اراضيها إلى دول الاتحاد الأوروبي.. الأمر هنا يتعلق بسياسة الاتحاد الأوروبي ورفضه استقبال اللاجئين من المناطق المشتعلة بالصراعات المسلحة والتوترات والحروب الداخلية، وهي إحدى أبرز القضايا الإنسانية إلحاحًا أمام المجتمع الدولي في تداعياتها الخطيرة وأثارها السلبية على انتهاكات حقوق الإنسان واجبارهم على مغادرة مواطنهم.
الحقوق الإنسانية
كثيرة هي التحديات التي تواجه قضية اللاجئين، وتحتاج إلى إعادة النظر في أشكال التعامل معها، وتفهم أوضاع طالبي اللجوء من منطلق أن كل شخص يتمتع بالحقوق الإنسانية بدوافع وأسباب اللجوء الاضطراري فرارا من الظروف القاهرة والأوضاع المأساوية المحيطة بهم، ورفع راية حقوق اللاجئين وطالبي اللجوء كحق إنساني، وإدانة الحروب ودوافعها وأسبابها ونتائجها والقوى الرئيسة المشاركة فيها، وتحمل مسؤوليتها التاريخية، وتبعاتها ومآلاتها واخطارها القريبة والبعيدة، وتركتها الثقيلة على حياة المجتمعات.
ولم تكن هذه الصراعات التي تدور رحاها اليوم في مناطق الشرق الأوسط بما في ذلك منطقة القرن الأفريقي بمعزل عن مشاريع الاستعمار في جوهرها ومضامين أهدافها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فضلا عن أطماعها الجيوسياسية، وامتداد هيمنتها ونفوذها في التنافس على جغرافيات العالم ونهب ثرواتها، والتمركز بالقوات والقواعد العسكرية على المناطق ذات الأهمية الاقتصادية والتجارية، وتمكين الشركات والجاليات الأوروبية في فرض أفكار التفوق العنصري في تلك المناطق التابعة للمركز الإمبريالي التي سميت بالأمم الملحقة به كمستعمرات، أو ما يطلق عليها اليوم بالكيانات السياسية الوظيفية.
نهج الاستعمار
كثيرة هي الأشكال والطرق والوسائل المتعددة في نهج الاستعمار لعودته إلى مناطق الثروات النفطية والغازية قد تعود بعضها إلى زمن بعيد انتهى وتوارى من حياة البشرية، ليعود بثقافة نزع وإزالة معالم السيادة الوطنية، كما يفعل كل استعمار في التاريخ الإنساني كما حدث في العراق وليبيا واليمن وغيرها، فبعد 82 عاما يعود الجنرال" مود" إلى بغداد، ولكن هذه المرة ببدلة اليانكي الأمريكي، وعلى ظهر دبابة البرامز، لتتخذ سلطات الاحتلال قرارات بحل المؤسسات السيادية، وفي المقدمة منها الجيش وقوى الأمن، وإقصاء الآلاف من النخب السياسية والإدارية وقادة المرافق والمؤسسات الفكرية والعلمية والصناعية والكوادر الأكاديمية لتفرض نفسها سلطات أمر واقع.
وتأسيسا على ذلك فإن الشعوب مازالت تعاني حتى اليوم من موجات الغزوات وتدخلات الامبراطوريات الاستعمارية التي تعيد إنتاج نفسها بصيغ وأشكال مختلفة من السياسات والتحالفات القديمة - الجديدة في مصوغات تلبي احتياجاتها ومنافعها في شروط العلاقات الرأسمالية الإمبريالية كظاهرة اقتصادية سياسية وعسكرية تقوم على التوسع والاستغلال والابتزاز والاحتكار التي تحكمها قواعد التبعية السياسية والاقتصادية والايديولوجية، وتتجاوز تلك العلاقات إلى التحالفات العسكرية، واتخاذ المواقف الموحدة من بينها الحروب. وكل ذلك لا يخلو من إنتاج الأزمات الإقليمية وإيجاد الانقسامات المجتمعية، وتسخير رسائلها كقنابل زمنية موقوتة في تغيير أوجه السياسات الأمريكية صاحبة الامتياز في العدوان على العالم.
فالحروب في منطقة الشرق الأوسط أخذت نطاقات جغرافية واسعة، وأصبحت في ظواهرها تشكل تهديدا ليس على الجوار الاقليمي فحسب، وإنما على السلم العالمي، قياسا إلى مأساويتها وفي هول الدمار الشامل في تحطيم مقدرات البلدان، لم تخلف إلا تراجيديا أحداثها المأساوية، وندوب جروحها الغائرة التي لم تتعاف منها بسهولة. وتندرج ضمن هذه الظواهر قمع الحكومات في اضطهاد الفئات الاجتماعية بسبب العرق، أو الجنس، أو المعتقد الديني، أو الإثني، ويتعدى ذلك إلى قمع الحريات العامة والأنشطة الحقوقية والسياسية.
قضية دولية
إذا ما عدنا بشكل سريع إلى الخلفية التاريخية نجد أنه لم يتم النظر إلى قضية اللاجئين باعتبارها قضية دولية يتعين معالجتها، إلا في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى وتحديدًا بعد إنشاء عصبة الأمم، عندما تم الاتفاق على حماية اللاجئين ومساعدتهم من قبل الدول الموقعة على البروتوكولات الحقوقية، ومنها بلدان اللجوء التي يفر إليها اللاجئون، حيث بدأ المجتمع الدولي يتعامل مع هذه الظواهر الإنسانية، فصدرت الاتفاقية الدولية لعام 1951، ثم بروتوكول عام 1967 الذي ألغى القيود الجغرافية لجعل الاتفاقية أكثر اتساقًا وشمولا، بحيث أصبحت تركز على الجانب الإنساني لمشكلة اللاجئين، ومن هنا تحددت الوظائف الأساسية للمفوضية التابعة للأمم المتحدة من شقين سياسي وإنساني، والصليب الأحمر الدولي فزاد الاهتمام بقضايا اللجوء مع ازدياد أعداد اللاجئين في شتى أنحاء العالم، وأخذت سبل الحماية في الفترة الأخيرة أشكالًا جديدة من التعامل معها، فضلا عن إعادة التوطين، وأصبح هناك اهتمام بتوفير المساعدات المادية مثل الأغذية والمأوى، وكذلك توفير الرعاية الصحية والتعليم، وغير ذلك من الخدمات الاجتماعية.
بيد أن السنوات الأخيرة شهدت تغيرت في هذه المعادلة عندما انتفشت الحروب لتشمل مسارح دولية كبيرة زادت معها اعداد اللاجئين، ومن هنا بدأ المجتمع الدولي يحد من اهتماماته رغم إلتزاماته بالمعاهدات والمواثيق الدولية إلا أن هذا الاستحقاق الإنساني اليوم لم يلق تطبيقاته على الأرض بالصورة المرجوة، ومازال يواجه من الصعوبات المعقدة، وتتهرب منه الكثير الدول، وتحصن حدودها بالسياجات الأمنية كما تفعل الولايات المتحدة أمام مهاجري المكسيك، وبولندا أمام لاجئي الشرق الأوسط العالقين على حدودها منذ مايو 2021، وهناك حوالى 4-3 آلاف لاجئ من بينهم العشرات من الأطفال والنساء، والحوامل على الحدود البولندية في المعبر الحدودي عند بلدة " كوزنيكا البولندية". وقد مثلث كل من بولندا ولاتفيا العضوان في الاتحاد الأوروبي أسوارا منيعة في اعتراض اللاجئين، ومنعهم من النفاذ عبر أراضيهما إلى دول أوروبا الغربية، ويواجهون ظروفا مناخية قاسية، في ظل عدم مبادرة السلطات البولندية تقديم أية مساعدات للإيواء والحماية من باب الإنسانية، وخصوصا وأن في أوساطهم أعدادا كبيرة من النساء الحوامل والأطفال.
السؤال الأهم: أين دور الاتحاد الأوربي من احترام المعاهدات الإنسانية، وما جدوى مثل هذه المواثيق، وهي لم تر تطبيقاتها على الواقع كما يجب ؟
محللون يرون أن استخدام العنف ليست الوسيلة المثلى في إقناع اللاجئين للعودة إلى أوطانهم الملتهبة بالصراعات المسلحة التي دمرت ديارهم وسبل معيشتهم، وجعلتها أراضي محروقة غير قابلة للمعيشة.. ويتساءل هؤلاء أليست هذه الحروب منتجات غربية أمريكية مازالت تتكرر اليوم في أحداثها منذ الغزوات الأوروبية والأمريكية الأولى منذ القرن الخامس عشر؟ .. إذ ليس هناك من عاقل ينفي أطماع الاستعمار في نهب ثروات الشعوب وافقارها والتسبب في حرمانها، كما ليس هناك من سينفي صناعة الحروب والمجاعات التي تعود إلى السياسات الاستعمارية بسبب تدخلاتها في شؤون الدول وتأجيج الصراعات، فضلا عن دور أدواتها في الحكومات المحلية بالإنابة عنها، إذا ما استثنينا بعض الدول التي نالت استقلالها عن التبعية الأمريكية والغربية ومع ذلك لا زالت تعاني من هجماتها الاقتصادية، ولازالت تواجه معارك تدخلاتها في صنع أزماتها؟!
تبعات إنتاج الحروب
قضية اللجوء هي نتاج لهذه الحروب التي لا يستثنى منها مشاركة الدول الوظيفية في منطقة الخليج بجانب القوى الكبرى، وأي إجابة أيا كانت سيتطلب أولا التفريق بين كل أنواع اللجوء من جانب والهجرة من جانب آخر للتفريق بين هذا وذاك، ومن بين هؤلاء اللاجئين لا نجد خليجيا واحدا، فهؤلاء بلدانهم مستقرة من عشرات السنين، مهمتهم الرئيسة إنفاق الأموال لصنع الأزمات للجيران ومن حولهم، وإذا كان هنالك أفراد في أمريكا والدول الأوروبية فهم من طالبي اللجوء السياسي المعارضين للأنظمة السياسية الخليجية.
ثمة محاولات لا تخلو من السذاجة السياسية في ممارسة الضغوطات لعودة اللاجئين إلى مواطنهم، هروبا إلى الأمام من تحمل تبعات سياستهم في إنتاج الحروب، ثم يلجؤون إلى التحايل على المعاهدات الدولية، والأفظع من ذلك أن الاتحاد الأوروبي يرتكب المزيد من الحماقات كتعامل بولندا مع اللاجئين بقسوة مفرطة في استخدام الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه، والسياجات الأمنية والاعتقالات لردع اللاجئين وممارسة أساليب الترهيب والتخويف ضدهم.
ومع ذلك يتطلب من المفوضية التابعة للأمم المتحدة والصليب الأحمر الدولي القيام بمسؤولياتهم الإنسانية في حماية ورعاية اللاجئين على الحدود البولندية، وتقديم سبل الحماية بالتعاون مع كافة الدول، بحيث يتم التعامل مع مشكلة اللجوء كقضية إنسانية بالدرجة الأولى بعيدًا عن أية اعتبارات أخرى وسط هذا التراشق السياسي في تسييس هذه القضية الإنسانية الذي يدفع ثمنها هؤلاء اللاجئون.
أما ما يخص إعادة اللاجئين إلى أوطانهم فتلك جريمة إضافية في حق اللاجئين بعد كل هذه التضحيات، سيما وأن أغلبيتهم يحملون مؤهلات علمية يمكن استيعابهم في مناطق اللجوء.
ويحظر البروتوكول الثاني (المادة 17) الترحيل القسري للمدنيين، إذ لا يجوز الأمر بترحيلهم إلا بصفة استثنائية، وهذا ما نصت عليه المادة السابعة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية التي اعتبرت الترحيل القسري للسكان من قبيل الجرائم ضد الإنسانية، وهناك استثناءات للمجرمين والإرهابيين من استحقاقات اللجوء. وتلتزم المعاهدات الدولية برعاية الأطفال وفقا للمعايير والقواعد التي حددتها الاتفاقية، ومن بين هذه الاتفاقيات اتفاقية العام 1951 التي تضع المعايير التي تنطبق على الأطفال، إذ تعتبر أي طفل لديه خوف مبرر من التعرض للاضطهاد من جراء الأسباب التي أوردتها الاتفاقية يعتبر لاجئًا. وتنص الاتفاقية على عدم جواز إرغام أي طفل يتمتع بصفة اللاجئ على العودة إلى بلده الأم، كما تطرقت إلى عدم جواز التمييز بين الأطفال والراشدين في مجال الرعاية الاجتماعية والحقوق القانونية، وأقرت أحكامًا خاصة بتعليم الأطفال اللاجئين، كما تطرقت لكافة الأحكام الخاصة بحماية المرأة في أماكن اللجوء، وفي الوقت نفسه إعمال اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 التي تطرقت لضمان حماية النساء الحوامل والأمهات المرضعات.
يبقى السؤال الماثل الذي يتطلب الإجابة عنه لماذا تتخذ دول الاتحاد الأوروبي تدابير تقييدية على نحو متزايد لردع اللاجئين والحالة البولندية أمامنا نموذجا ماثلا، إذ قامت العديد من البلدان بالتنسيق فيما بينها لغايات الحد من قدوم اللاجئين إليها من دون أن يتزامن ذلك مع بحث حل للأسباب التي دفعت هؤلاء اللاجئين إلى ترك مواطنهم.؟!
وفي الأخير فإن معالجة قضية اللاجئين تقع على عاتق الأمم المتحدة ومنظماتها المعنية بتطبيق الالتزامات المفروضة على عاتقها بموجب الاتفاقيات الدولية، وليس من منظور التوظيف السياسي لها. وما يلفت الانتباه تقاعس دول الاتحاد الأوروبي عن القيام بدورها الإنساني مع قضايا اللجوء، والقيام بواجباتها على النحو المنشود، على الرغم من أن هذه القضية كشفت غياب دورها في الحد من الصراعات المسلحة في العالم، وتحمل تبعاتها، وليس اللاجئون هنا هم المشكلة، إنما في تحويل اللجوء الانساني إلى قضية سياسية كما يريد ذلك الاتحاد الأوروبي في الصراع مع بيلاروسيا.
وثمة طوفان يجتاح اللاجئين في تسييس لجوؤهم ليس بسبب أعدادهم، إذ أن الأزمة ليست أزمة أعداد، فالبشر ليسوا هم المشكلة، وإنما في الأسباب التي تدفع الأفراد إلى اجتياز الحدود، وفي السياسات غير الواقعية وغير المنضبطة في احترام حرية الاستقلال وسيادة الشعوب.