فيما أصبح محط أنظار أطماع دولية وإقليمية مهولة:السودان بين إرادة الشعب والتدخلات الخارجية
تُظهر تجربة السودان أن الانقلابات العسكرية أسهل الخطوات في الوصول إلى السلطة، إلا أن إسقاط النظام ليس سوى مبتدأ الأمر،
وأما ما يلي ذلك فلن يغير من واقع الحياة بشيء غير تعاقب الأنظمة الديكتاتورية في متوالية الاستبداد العاقر للحياة التي تكثر فيه الثرثرة في طواحين الإعلام عن التنمية الخادعة.
وما حدث في السودان كان متوقعا لدى الكثير من المراقبين والمحللين السياسيين أن يقوم رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان ورفاقه في المجلس السيادي بالانقلاب على الحكومة المدنية والوثيقة الدستورية بقراراته لانهاء الشراكة الوطنية مع المكونات السياسية المدنية واختطاف ثورة 19ديسمبر 2019م بحل المجلس السيادي والحكومة، وإعفاء حكام الولايات، ووكلاء الوزارات، وإعلان حالة الطوارئ، وتجميد لجنة إزالة التمكين، وتجميد عدد من بنود الوثيقة الدستورية، والإعلان عن تشكيل حكومة كفاءات مستقلة خلال شهر تحل محل حكومة حمدوك حتى موعد الانتخابات، معتبرا هذه الخطوة هامة لتصحيح مسار العملية الانتقالية، التي تتهددها انقسامات تنذر بخطر وشيك يهدد أمن الوطن حسب زعمه. وقال البرهان: إن القوات المسلحة ستتولى إكمال المرحلة الانتقالية إلى حين تسليم السلطة إلى حكومة مدنية منتخبة، وأكد التزام بلاده بالاتفاقيات الدولية الموقعة... تزامنت هذه الإجراءات باعتقالات واسعة واقتحامات لمنازل كبار مسؤولي الدولة شمل رئيس الوزراء وأعضاء المكون المدني في مجلس السيادة والوزراء، وقادة أحزاب وسياسيين، وفرض رقابة مشددة على آخرين. واعتبرت الأحزاب والمكونات الاجتماعية والمنظمات الحقوقية، ومنظمات المجتمع المدني والاتحادات والنقابات ما يقوم به البرهان انقلابا مكتمل الأركان على الوثيقة الدستورية، وعلى الشعب السوداني صاحب المصلحة الحقيقة في عملية التغيير للخروج من عهود الاستبداد السياسي.
غضب شعبي
خرج الشعب السوداني بكل فئاته وتياراته السياسية والمجتمعية في ثورة بركان شعبي غاضب إلى شوارع العاصمة الخرطوم منددين بالانقلاب العسكري في تكرار لسيناريوهات الانقلابات التاريخية للانقضاض على السلطة، فيما كان الجيش قد انتشر في الشوارع والأحياء بمركباته وآليته العسكرية تسنده قوات الدعم السريع وسيطر الجيش على أهم مقرات ومؤسسات الدولة، وقطعت الاتصالات والانترنت، والخطوط بين الخرطوم وأم درمان، وأشعل المحتشدون شوارع الخرطوم بالإطارات وقطع الطرقات، وتوجهوا إلى مقر القيادة العامة للجيش، وامطرتهم قوات الدعم السريع بالرصاص الحي ما أدى إلى سقوط عدد من القتلى والجرحى وتسارعت ردود الأفعال الدولية والإقليمية، حيث نددت الأمم المتحدة بالانقلاب العسكري، فيما علقت واشنطن المساعدات حتى تستعيد الحكومة المدنية دورها، وقالت الخارجية الأمريكية: إن واشنطن لن تتردد في مساءلة من يرتكبون أعمال عنف ضد المدنيين والمسؤولين عن إخراج السودان عن المسار الديمقراطي، فيما وصفت بريطانيا الانقلاب بالخيانة غير المقبولة، أما الجامعة العربية وعلى استحياء تام عبرت عن قلقها من الانقلاب العسكري.
أطماع دولية وإقليمية
كان الاتفاق على الوثيقة الدستورية ينص على مرحلة انتقالية لثلاث سنوات وثلاثة أشهر، يتعاقب على رئاستها العسكر والمدنيون، مناصفةً لمجلس السيادة وحكومة مدنية يحتفظ العسكر فيها بوزارتي الداخلية والدفاع. وكان ممثلو المكوّن المدني في عز قوتهم بعد انتفاضة سلمية شعبية كاسحة انطلقت في 19 ديسمبر 2019 من "عطبرة"، المدينة العمالية من حيث بدأ كل شيء، وكان شعارها "رحيل النظام" وسقط نظام البشير الذي لم تسعفه طلباته الأخيرة في إبادة الآلاف من المعتصمين قبل انبلاج الفجر، فقد التف عليه فعلياً مساعدوه من جنرالات الجيش في انقلاب ناجح انتهى به ورموزه إلى المعتقلات.
والموقف المقلق والعصيب اليوم في السودان لا يسمح بالتبصّر في الأخطاء، ولا في تعيين شروط نجاح المرحلة الانتقالية، وهي بالطبع مهمات ضرورية وعاجلة سيتولاها حتماً أبناء هذا البلد الرائع، بالغ الثراء والتنوع، والذي قاوم دوماً كل محاولات سحقه على الرغم من أن السودان محط أنظار أطماع دولية وإقليمية مهولة، وعلى الرغم من إفقاره البشع والمديد، ومن بؤر العنف المتأججة فيه، فهو يمتلك كل عناصر الخروج من الوضع البائس الذي زُجَّ به في أتون الأزمات الاقتصادية الطاحنة في بلد يُجوَّع أهله، بل التصميم الذي يمتلكه الناس، والذي ظهر مراراً على طول تاريخ السودان الحديث.
طريق مسدود
السودان يواجه أسئلة وتحديات أساسية تفرض إعادة تأسيسها، وعلى رأس ذلك قدرة القوى السياسية على التعامل مع هذه التحديات، واستيعاب مهام هذه المرحلة العصيبة لتلبية مطالب الشعب في عملية التغيير الذي تزامن مع لحظات الخوف لعبور هذه المرحلة العصيبة، التي بدأت أوعيتها السياسية ترتب مساحات خلافاتها أكثر من تقاطعها حول فكرة العبور الآمن في إدارة الفترة الانتقالية، فانكفأت بإدارة معاركها الخلافية والاتهامات المتبادلة التي انحدرت إلى إنتاج أزمات حقيقية وصلت إلى طريق مسدود، وانتقال الصراع من دواليب وأروقة السلطة إلى الشارع، وخصوصا عندما شهدت الأسابيع الأخيرة توترات في المجلس السيادي بين المكون العسكري والمكون المدني، كان العسكر يبحثون عن حاضنة سياسية للاستحواذ على السلطة، وكان المدنيون يرفضون حكم العسكر.. هذا المناخ المعقد سبب انقسامات داخل حركة الحرية والتغيير التي انشقت عنها مجاميع أطلقت على نفسها مسمى "الميثاق الوطني" واعتبر الاعتصام المؤيد للمكون العسكري هو انسلاخ هذه المجاميع من الحرية والتغيير التي أنظم إليها حزب المؤتمر الوطني، والجماعات الإسلامية، لتبدأ حشودها تظهر أمام القصر الرئاسي مصمما للتمهيد للانقلاب، ولم تكن هناك محاولة لإخفاء هذا الغرض، فقد طالب المحتجون الجيش بأن يطيح بالقادة المدنيين "الفاشلين" حسب زعمهم.
ومن هنا بدأ المكون العسكري الذي لم تكن له حاضنة شعبية هندسة هذه التظاهرات لإدخال البلاد في دوامة الاحتجاجات الذي تمترس خلفها لتبدو الاحتمالات المرجحة واردة في معارك مواجهة الخصوم.. كان ذلك الاعتصام محاولة غير اعتيادية لإضفاء شرعية على استيلاء الجيش على السلطة باستخدام غطاء الاحتجاجات الشعبية، وبعد ذلك بحوالي أسبوع أي في 21أكتوبر نظمت مظاهرة احتجاجية معاكسة لقوى الحرية والتغيير، وهذه المرة خرجت حشود وصفت بالمليونية دعماً للحكومة المدنية. وفي ظل هذا السجال الذي حاول البرهان قطع خيوط اتصاله بالانقلاب العسكري وإعلان حالة الطوارئ، إلا تلك الإجراءات ولدت انتفاضة شعبية تزامنت مع الدعوات التي أطلقها رئيس الوزراء من معتقله لاحتجاجات ومظاهرات سلمية للدفاع عن مسار المرحلة الانتقالية.
مجرد وعود
كانت البلاد قد قطعت خطوات هائلة على طريق تطبيع العلاقات مع الغرب، وفتح المجال أمام تدفق التمويل الذي مست الحاجة إليه مع الوعود بالانتقال إلى الديمقراطية أبقى الأمل حياً في نفوس الكثير من السودانيين وحلفاء البلاد، لكن كل ذلك كان مجرد وعود ليس إلا ولم تعد الولايات المتحدة مهتمة بالديمقراطية بذات الحماس لدعم الديمقراطيات في البلدان النامية والمتخلفة فاحتمالية مآلاتها المستقبلية ليس في صالح أجنداتها الاستعمارية وبصرف النظر عما سيحدث من متغيرات، فإن هذه اللحظة تعد بلا شك لحظة حاسمة في المشهد السياسي في السودان فهل ستنجو السودان من مشاريع المؤامرات الإقليمية والدولية في التحضير لحرب أهلية؟!.. وكانت طبيعة العلاقة بين المكون العسكري والمكون المدني في رأس السلطة خلال الفترة التي تلت حكم البشير حتى اليوم مشحونة بالتوتر والخلافات والترصد، كانت لجنة إزالة التمكين إحدى هذه في استمرار عملها الذي سعى المكون العسكري لتعطيل مهامها، حيث كانت تباشر عملها لتفكيك النظام السابق، واجتثاث حزب المؤتمر الوطني الحاكم ومصادرة ممتلكاته ومحاسبة كل رموزه، وشرعت بالفعل بإجراء إقالات جماعية في عدد من الوزارات والمؤسسات، وفتحت ملفات الفساد وجمدت أرصدة وحجزت ممتلكات.
حينها أدرك الجنرالات أن قادم الأيام لن يكن في مصلحتهم إذا ما ترك الحال على ماهو عليه للجنة إزالة التمكين والقوى المدنية الأخرى، واعتبروها تمارس مهامها بدافع الانتقام والتشفي بما في ذلك مطالبتها بتسليم البشير إلى محكمة الجنايات الدولية، فكان توقيع إتفاق التطبيع مع الكيان الصهيوني برعاية البرهان ضرورة للاستقواء به في ملفات عديدة أمام ضغط الجبهة المدنية الداخلية ليتبعه انقلاب عسكري تجريبي في 21سبتمبر الماضي، وهو أشبه ما يكون ببروفة تحضيرية لقياس ردود الأفعال ادعت قيادة الجيش أنه ضدها، وأنها من أفشله، ولكن ليس من المعقول القبول بهذا الادعاء لأن الأقرب للصواب هو الخوف على الحكومة المدنية من المجلس العسكري وليس العكس، وعلاوة على ما سبق بات الموعد القريب لتسليم رئاسة المجلس السيادي للمدنيين في نوفمبر الجاري من أهم الأسباب التي دفعت البرهان ورفاقه إلى قطع الطريق أمام قوى الحرية والتغيير والتمديد لأنفسهم إلى يوليو 2023م.
فمليونية 21أكتوبر الماضي وحدت وجدان شعب السودان، فقد عمت كل مناطق السودان الحضر والريف بشعارات تجسد مضمون وجوهر ثورة ديسمبر 2019، لتحقيق التحول الديمقراطي واستدامة السلام والتوزيع العادل للثروة والسلطة والتنمية والخدمات، وترسيخ التداول السلمي الديمقراطي للسلطة والتعامل بجدية مع الدول والشعوب. هذا المارثون الشعبي الهائج الذي لم يتوقف حتى اليوم كان هو نقطة ضعف البرهان الذي يخشى منه أن يتحول إلى عصيان مدني، لاسيما وأن الجيش بعد ثورة ديسمبر 2019 فقد نفوذه في المؤسسات المدنية.
وكانت هناك تكهنات إذا لم يتراجع البرهان عن قراراته أن تدخل البلد في حالة شلل تام في كل مرافق وقطاعات الدولة، ليأتي ذلك متزامنا مع التهديد الأمريكي بقطع المساعدات الأمريكية التي شكلت ضغطا آخر، إلى جانب الضغوطات الإقليمية والدولية بالإفراج عن حمدوك الذي عاد إلى منزلة تحت الحراسة المشددة.
الاستقلال والحرية
شعب السودان شعب يتطلع إلى المستقبل، ويحق له الانحناء ليمتطي ظهر التاريخ نحو سيادة الشعوب إلى الاستقلال والحرية بعيدا عن الهيمنة والوصايا والتبعية للأنظمة الرأسمالية الطفيلية، ومكافحة الفساد، وردم المظالم، ومفارقة السياسات الاقتصادية التي برهنت وما زالت تبرهن على استمرار الإضرار بالمواطنين والوطن، والعجز عن تجاوز الفقر والتخلف والتبعية للخارج، وانتهاج مسار سياسي اقتصادي اجتماعي ثقافي مغاير لما ساد منذ الاستقلال فهل سيتجاوز السودان أزماته العاصفة، تلك هي المشقة في التحديات الماثلة للخروج من الأزمات التي تتطلب عمل الجميع بروح الفريق الواحد لإدارة العملية الانتقالية بسلاسة للوصول إلى بر الأمان.