الصراع والتنافس الدولي والاقليمي في القوقاز ودول وسط آسيا
على مرِّ التاريخ تتمتع منطقة القوقاز بأهمية كبيرة كون هذا الإقليم يعد واحدا من أكثر مناطق العالم تأثيرا من النواحي الجيوسياسية والجيواقتصادية
ولعب موقعه الجغرافي الهام دورًا مهمًّا في الاتصال والتجارة بين أوروبا وآسيا وكانت هذه الميزة في مقدمة الأسباب التي جعلت القوى الإقليمية والعالمية تسعى على الدوام للسيطرة على المنطقة.
تعتبر أذربيجان من دول منطقة القوقاز الجنوبي ولأسباب تتعلق بالجغرافيا والجغرافيا السياسية فضلًا عن المشكلات السياسية ذات الامتداد التاريخي فإن المنطقة تُصنَّف من بين أكثر المناطق أهمية وأعلاها توترًا في العالم. ويستمد الوضع الجيوسياسي لدولة مثل أذربيجان تعقيده من وجود دولٍ جارة بوزن سياسي واقتصادي كبير مثل روسيا وتركيا وإيران مما يدفع صانع القرار السياسي إلى ابتداع وسائل ومقاربات مختلفة لخلق توازنات في المصالح تأخذ في الاعتبار عوامل تتباين في تأثيرها من دولة لأخرى تبعًا لوزن كل عامل بالانتقائية في علاقات أذربيجان الخارجية فهي في الوقت نفسه عضو في منظمات أوروبية وعضو في منظمة التعاون الإسلامي ورابطة الدول المستقلة فضلًا عن وجود علاقات قوية مع الناتو وإسرائيل.
الاعتراف بالجمهوريات المستقلة
منذ استقلال أذربيجان 1991 عن الاتحاد السوفيتي ترحب باكو بنفوذ الولايات المتحدة وإسرائيل في المنطقة وتعتبر ذلك عامل توازن أمام محور موسكو- طهران ويريفان. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي سارعت إسرائيل إلى الاعتراف بالجمهوريات المستقلة حديثًا في آسيا الوسطى والقوقاز وأقامت علاقات دبلوماسية معها وأنشأت سفارات عاملة في معظم هذه الجمهوريات وقابل ذلك رغبة مشابهة من قِبل هذه الجمهوريات في توسيع العلاقات سعيًا لتحقيق مكاسب من قِبل تل أبيب كالاستثمارات والتكنولوجيا والخبرات الاقتصادية للمساعدة في عملية النمو والتنمية الاقتصادية.
وتُشكل العلاقات الاسرائيلية مع أذربيجان أهمية خاصة بالنسبة لإسرائيل بالنظر إلى اعتبار إيران تهديدًا لها. ففي العام 2000 زار إيهود باراك باكو وتقدَّم بطلب انشاء قاعدة عسكرية إسرائيلية وتم بناؤها في العام 2003 وهي ثاني قاعدة استخبارية جنوب أذربيجان نصبت عليها أجهزة تجسس وقد أثَّر ذلك سلبًا على العلاقات بين طهران وباكو لارتباط أذربيجان بالمحور الغربي وامتداد النفوذ الإسرائيلي في جنوب القوقاز الذي يشكِّل تهديدًا على أمنها القومي ولا تبدو العلاقات الإيرانية-الأذربيجانية تُدار بمعزل عن صراع أذربيجان مع أرمينيا في النزاع المسلح حول إقليم ناجورني كاراباخ .
البعد التاريخي
لقد قررت أذربيجان في سياستها الخارجية أن تعزِّز أمنها بالخروج من النفوذ الروسي والالتحاق بالمحور الغربي وأن تربط مصالحها بالناتو كانت إيران في المقابل وعلى مدى العقود التي أعقبت انتصار الثورة الإسلامية تتحرك بصورة متقاربة مع روسيا ومبتعدة عن المحور الأمريكي رغم اعترافها باستقلال الدول التي كانت جزءًا منها في آسيا الوسطى والقوقاز إلا أن إيران لم تنسَ حضورها التاريخي ودورها في تلك المناطق وما زالت تستحضره في سياستها الخارجية إلى اليوم وتنظر إلى ضرورة التواجد والنفوذ كنوع من تأمين المنافع الحيوية ذات التأثير المباشر على الأمن القومي رغم الاختلافات إلا أن البُعد التاريخي حاضر بقوة في بناء استراتيجيات العلاقة بين الجانبين لدى إيران وأذربيجان على حد سواء فضلًا عن المشترك الثقافي والديني.
عندما بدأت الحرب في ناجورني كاراباخ سعت إيران المتهمة إلى اليوم بدعم أرمينيا للعب دور الوسيط لحل الأزمة لكن ميل حكومة أذربيجان في تلك الفترة إلى العلاقة مع روسيا حال دون ذلك بالإضافة إلى حالة الارتباك والفوضى التي رافقت تلك المرحلة وعزَّزتها الحرب في كاراباخ.
وبعد إعلان وقف إطلاق النار في ناجورني كاراباخ سعى علييف إلى تنمية العلاقات مع إيران على الرغم من قناعاته بضرورة تنمية أذربيجان وفق النموذج الغربي وما بين 1992 و1995 كانت إيران الشريك التجاري الأول لأذربيجان ومنذ ذلك التاريخ وإلى اليوم لم تنقطع الزيارات الرسمية على أعلى المستويات بين الجانبين حتى في الفترات التي كان يسودها التوتر وخلال زيارة حيدر علييف لإيران عام 1994 وُقِّعَ الكثير من مذكرات التعاون بين البلدين إلا أن الضغط الأمريكي والعقوبات المفروضة على طهران جرى استبعادها من مشروع القرن النفطي وهو ما أوجد حالة من انعدام الثقة بين الجانبين وانتقلت إيران من الشريك التجاري رقم واحد لتصبح الشريك التجاري رقم 3 وكانت تركيا وروسيا في مقدمة منافسي إيران على هذا الصعيد.
التهديد باستخدام القوة
وشهدت العلاقات الثنائية أزمة حقيقية تتعلق بحقوق كل طرف في بحر الخزر ومحاولة أذربيجان استثمار ثرواته بصورة أغضبت الحكومة الإيرانية فهدَّدت باستخدام القوة مالم تتراجع سفن الكشف عن النفط التي كانت تعود لشركة بريطانية عن التنقيب في مياه بحر الخزر وهو ما حدث بالفعل عندما أَجبرت سفينةٌ حربية إيرانية سُفنَ الكشف عن النفط على مغادرة منطقة البرز. ومع وصول إلهام علييف إلى السلطة مع حزبه أذربيجان الجديدة بدأت الخُطى تتسارع لربط المصالح مع الغرب ومع إخراج إيران من خط أنابيب (باكو- تفليس - جيحان) بدأ الاهتمام ينصب على أذربيجان كدولة مزوِّدة للطاقة وهو ما جعل منطقة القوقاز الجنوبي ميدانًا للتنافس الإقليمي والدولي.
ويعد إقليم كاراباخ الأكثر خصوبة وأهم النقاط الاستراتيجية في جنوب القوقاز وهو منذ عقود مدار صراع بين الأذريين والأرمن دائمًا وهذه المرتفعات ذات أهمية عسكرية كبيرة فمع نشر قوات عسكرية في هذه المرتفعات تصبح طرق الاتصال في أذربيجان والسهول المحيطة بالطريق بين الشمال والجنوب مكشوفة وفي مرمى المدفعية وقد استثمرت أرمينيا سيطرتها على هذه المرتفعات بشكل كبير ومما يعمق من المشكلة أنها تتجاوز خلافا على ملكية الأرض لتشكل قضية أمن وطني بالنسبة لأذربيجان.
نقطة خلاف
تحالفات أذربيجان الإقليمية والدولية شكلت نقطة خلاف واضحة بين باكو وطهران فضلًا عن التوتر الذي تُحدثه الدعوات التي تظهر بين الحين والآخر على هذه الضفة أو تلك بضرورة ضم جنوب أذربيجان ليخضع للسيادة الأذربيجانية تارة أو تلك المطالبة باستعادة شمال أذربيجان ليخضع للسيادة الإيرانية تارة أخرى ولا تُخفي إيران بناء علاقات قوية مع أرمينيا الجارة التي تحتل ما يقرب من 25% من الأراضي الأذربيجانية فبالإضافة إلى ناجورني كاراباخ تحتل أرمينيا سبعة مواقع أذربيجانية أخرى. واندلع النزاع حول الإقليم الجبلي عام 1988 وفي العام 1991 أعلنت الأغلبية الأرمينية بين سكانها انفصال الإقليم عن أذربيجان وقيام جمهورية ناجورني كاراباخ.
ومن جانب واحد الأمر الذي أَّدى إلى اندلاع الحرب في تلك المنطقة بين الأرمن والأذربيجانيين انتهت بالتوقيع على هدنة عام 1994دون الوصول إلى حلٍّ للأزمة. وعاد التوتر من جديد في إبريل 2016 بين البلدين وسط مخاوف من أن تتسع رقعته لتطول دولًا مجاورة في مقدمتها إيران سعت إيران لتوظيف النزاع ولعب دور الوسيط بين أذربيجان وأرمينيا مما يعزز من نفوذها ودورها كلاعب إقليمي وضمن هذا الإطار رعت طهران عام 1992 مفاوضات بين الرئيسين الأذري والأرميني لتسوية النزاع وهو ما عُرف بإعلان طهران في عام 2005 وبالتزامن مع استئناف محادثات سلام جديدة حول قضية كاراباخ اقترح الوفد الفرنسي قبول إيران بصفة مراقب في مجموعة مينسك وهو الأمر الذي قوبل بالرفض من قبل الوفد الأمريكي.
علاقات متوازنة
في2007 أعلنت الدول الراعية لمؤتمر مبادئ مدريد عن نشر قوات دولية لحفظ السلام في المنطقة المتنازع عليها واعتبرت طهران وجود قوات دولية من خارج الإقليم وتتبع دول مثل الولايات المتحدة والدول الأوروبية تهديدًا لنفوذها وأمنها في منطقة القوقاز واقترحت مبادرة 3+3 قوات بديلة في 2008 بمشاركة كل من جورجيا-أرمينيا-أذربيجان-إيران-روسيا-تركيا.
ويبدو أن النموذج المثالي لموسكو هو بناء علاقات متوازنة مع جمهوريات جنوب القوقاز الثلاث الأمر الذي طالما كان هدفا للسياسة الروسية في المنطقة ومع ذلك فإن روسيا بصفة عامة ما زالت تفتقر إلى أي أساس متين لعلاقات مستقرة مع أذربيجان وجورجيا في الوقت الذي تتوجه فيه الدولتان غربًا.
وأدركت موسكو أن حل هذه الأزمة سوف يُضعف نفوذها الكبير في جنوب القوقاز لذلك ترجح السياسة الروسية أن مصالحها تكون في الحفاظ على الوضع الراهن وتعتبر روسيا جنوبَ القوقاز المجالَ الحصري لنفوذها وتتعامل بحساسية شديدة تجاه المسائل المتعلقة بهذه القضية ولذلك تعاملت بصورة جدية مع جورجيا المدعومة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية.
ترجيح العلاقة مع الغرب
وهناك عوامل عديدة جعلت إيران تخسر تأثيرها في هذه الأزمة خاصة فيما يتعلق بالطرف الأذربيجاني أهمها الميل الأذربيجاني لترجيح العلاقة مع الغرب وتركيا والدعم الروسي الكبير لمواقف أرمينيا والقرب الإيراني من هذا الاتجاه إنشاء مجموعة مينسك من قِبل اتحاد الأمن والتعاون في أوروبا ولا يقف تراجع التأثير الإيراني عند حدود أذربيجان بل ينسحب على القوقاز الجنوبي بصورة عامة على الرغم مما ساد في الأوساط الإيرانية من تفاؤل بأن تكون إيران دولة ذات تأثير كبير في هذه المنطقة.
وتراجع التأثير هذا يعود لأسباب عدَّة في مقدمتها غلبة التوجه نحو المشكلات الداخلية خاصة مع تشديد العقوبات وجعل الملف النووي الإيراني في سُلم أولويات السياسة الخارجية الإيرانية مما أدى إلى تراجع الاهتمام بعدد من الملفات يُضاف إلى ذلك النقد الذي يوجه لإيران بالتدخل في شؤون الدول الأخرى.
وكان لمواقف إيران الداعمة لموقف روسيا فيما يتعلق بأزمة أوسيتيا وتحفظ روسيا تجاه التدخل في الدول المستقلة عن الاتحاد السوفيتي أثرُه السلبي على صعيد تقليل التأثير الإيراني في منطقة القوقاز وتقديم الحلول لمعضلاتها.
سيطرة القوى الدولية
من العوامل العابرة للإقليم والمؤثرة على صعيد تحجيم النفوذ الإيراني وجود سيطرة القوى الدولية في منطقة جنوب القوقاز فقد نجحت الإدارة الأمريكية من خلال الضغط وتقديم الامتيازات لدول المنطقة بإقصاء إيران وظهر ذلك واضحا في مناسبات عدَّة أهمها: إخراج إيران من مشروع الكونسورتيوم النفطي الدولي في أذربيجان في التسعينات من القرن العشرين وقد سعت روسيا لاحتكار نقل النفط الأذري عبر خط من باكو إلى ميناء نوفاراسيسك الروسي المُطل على البحر الأسود رغم أن الخط لم يكن مصممًا لاستيعاب ونقل كميات كبيرة من النفط تسمح لروسيا بلعب الدور الذي أمَّلت أن تلعبه.
في مقابل معارضة تركيا والولايات المتحدة للخط الروسي دعمت الولايات المتحدة مشروعًا لنقل النفط الخام من حقل شيراج جونشلي الأذري من خلال خط يمر عبر العاصمة الجورجية تبليسي لتفادي أرمينيا لنزاعها مع باكو إلى ميناء جيهان التركي المُطل على البحر المتوسط لتصديره إلى الأسواق العالمية وبذلك أمكن للولايات المتحدة الإسهام في كسر الاحتكار الروسي وتفادي عبور الخطوط من خلال الأراضي الإيرانية.
استبعاد إيران من مبادرات تعزيز أمن الطاقة ومن ذلك ما بدأته دول TAG الثلاث (تركيا-أذربيجان- جورجيا) منذ 2006 من مناورات وتدريبات عسكرية تحت مظلة الناتو ولا تبدو إيران راضية عن التعاون الاقتصادي والعسكري بين مثلث دول TAG ومن ذلك خط قطار باكو- تبليسي ومنذ العام 2013 بدأت أذربيجان وتركيا في تأسيس وحدات عسكرية مشتركة لحماية المشروعات والمنشآت الحيوية وخطوط الغاز والنفط وزيادة المناورات العسكرية المشتركة ومزيد من التعاون الدولي في مجال الطاقة ومد خطوط النفط والغاز يأتي متزامنًا مع مزيد من التعاون الأمني والعسكري وزيادة في القدرات التسليحية وهو ما يشكل تحديًا للدور الإيراني في الإقليم.
نقطة صراع
تصعيد التوتر في منطقة القوقاز تارة من جانب إيران وتارة تركيا في المناورات العسكرية الاخيرة على الحدود الايرانية الأذربيجانية التركية هو نتيجة للتغييرات التي حدثت بعد الحرب الأذرية الأرمينية العام الماضي التي انتهت بسيطرة لأذربيجان على بعض الأقاليم والمحافظات الواقعة تحت النفوذ الأرميني ومنها إقليم ناختشيفان بين أذربيجان وتركيا الذي أصبح نقطة صراع في التغييرات الجيوستراتيجية ما يجعل تركيا تحصل على خطوط تواصل مع أذربيجان دون المرور بالأراضي الإيرانية.
وهكذا فإن منطقة القوقاز ستظل منطقة صراع وبؤرة اشتعال بين الدول المتنافسة تجاريا واقتصاديا بالإضافة إلى التوترات الحدودية في الاتصال الاقتصادي والتجاري.