بريطانيا وأمريكا تاريخ أسود من الإجرام المُفرِط بحق الأمة والإنسانية ! (29)
ولأن بريطانيا الملعونة هي صاحبة الفكرة الشيطانية التي تبلورت بشكل مُرضي لها كدولة شريرة وكان نتاجها إنشاء كيان لقيط غريب ممثلاً بكيان الصهاينة الغاصب في قلب العالم العربي وفي أقدس بقعة من الأرض،
يكون امتداداً ورديفًا لها وللإستعمار الغربي وخادم مخلص لمصالحه في المنطقة على المدى الطويل، فقد حرصت هذه الدولة الإستعمارية وهي في أوج مجدها أيما حرص على انفاذ فكرتها وتمرير مخططها وإنجاز مشروعها الإستعماري بدقة متناهية وفق الترتيبات اللازمة التي أعدت له بعناية فائقة وضمنت له كل سبل النجاح المُتاحة والمنشودة، وما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية عملت بريطانيا التي كانت تستعمر فلسطين بالتعاون والتنسيق مع الوكالة اليهودية والمنظمات الصهيونية وشركائها الغربيين الآخرين ومن بينهم فرنسا وأمريكا وغيرها على تنظيم هجرات اليهود من مختلف البلدان إلى الأراضي الفلسطينية، تمهيداً لإقامة الدولة التي وعدتهم بها وضمنت هذا الوعد في نص تصريح وزير خارجيتها آرثر بلفور الذي أطلقه في 2 نوفمبر من العام 1917م، وفي تلك الفترة المحورية الفاصلة من تاريخ المنطقة والعالم بدا لافتًا تلاقح الأفكار و التصورات، وإتساق الإستراتجيات الهدامة وتلاقي الأهداف والطموحات والمشاريع والتوجهات الإستعمارية الغربية وانسجامها مع بعض بل وتوافقها ضمن الهدف والغاية المشتركة التي تجسدت في النهاية بفرض واقع جديد على العرب والمنطقة تمثل بقيام دولة الكيان الصهيوني الغاصب في أرض فلسطين والذي منحه الغرب كل رعايته وعنايته واهتمامه وتكفل بدعمه والحفاظ عليه .
وفي الوقت الذي كانت فيه بريطانيا والغرب يخططون لتحقيق ذلك الهدف وإنجاز المشروع الذي تبنوه وأقروه بإجماع، كان العرب حينها في شغل فاكهين ومستغرقون ولاهون في خوض حرب بالوكالة كلفتهم بها بريطانيا ضد الخلافة العثمانية تحت شعارات الحرية والإستقلال، بعد أن منتهم بريطانيا بأشياء كثيرة كانوا يحلمون بها آنذاك، وقد نجحت بريطانيا بما عُرفت به من مكر ودهاء وخُبث في التغرير بالشريف حسين ملك الحجاز وأقنعته بقيادة ما سمي بالثورة العربية الكبرى ضد الأتراك مقابل أن تنصبه ملكاً على العرب بعد انتهاء الحرب والخلاص من الأتراك، واستغلت بريطانيا حالة الهيجان والتذمر والسخط وضيق العرب من مظالم ومساوئ الحكم العثماني الأخير للبلدان العربية، في تحقيق غاياتها المشبوهة بالتخلص من الأتراك ومحاربتهم بأيدي غيرها، وأبدت بريطانيا في الظاهر تعاطفها مع قضية الإستقلال العربي عن حكم السلطنة العلية وقدمت مساعداتها للثائرين عليها من العرب، لترمي بذلك عصفورين بحجر، وتتخلص في النهاية من الكل بأقل التكاليف، وكانت بريطانيا في تلك الآونة تعمل في الخفاء على طرد الشريف حسين من الحجاز وتعد العدة لإقامة الدولة السعودية الوهابية لتحل محله هناك وهو ماكان، وتستكمل مع حلفائها المنتصرين في الحرب العالمية الأولى التي أسفرت عن هزيمة تركيا وسقوط الخلافة العثمانية فيما بعد، إعادة رسم خارطة المنطقة من جديد وتقسيم تركة ماسمي اصطلاحًا بتركة "الرجل المريض" في إشارة إلى المآل الذي آلت إليه تركيا العثمانية آنذاك .
ولم يدرك العرب أو بالأصح لعلهم لم يدركوا بعد أنه قد جرى استغفالهم وخداعهم من قبل بريطانيا والغرب، وأن المنطقة آنذاك كانت مع موعد محدد مع ترتيبات جديدة تلبي متطلبات المستعمر الغربي وتضمن خدمة وحماية مصالحه على حساب مصالح الشعوب والدول العربية التي انطلت على الكثير منها الحيلة البريطانية الماكرة بشكل عجيب، واللافت أن الرأسمالية الغربية ممثلة بالدول الإستعمارية كبريطانيا وفرنسا وأسبانيا والبرتغال وبلجيكا وهولندا وإيطاليا وأمريكا وغيرها، والصهيونية العالمية ممثلة برموزها وأفكارها ومعتقداتها العنصرية الباطلة، ألتقت مصالحهما المشتركة في أكثر من طريق، ووجد كلا منهما ضالته فيما حدث وجرى في العالم من تطورات وتغيرات شهدها قبل وبعد الحربين الكونيتين الأولى والثانية، وحقق كل جانب ما أراد وسعى إليه، وكانت إسرائيل وقيام دولتها هو القاسم المشترك بين الرأسمالية الغربية والصهيونية العالمية والهدف الواحد الذي تحقق لهما بعد عهود من التخطيط والسعي الحثيث لإدراكه، وقد أكدت بريطانيا التي تعد جزء من المنظومة الرأسمالية الغربية بشتى السبل على تنفيذ استراتيجيتها الخاصة بمنع أي نهوض عربي وإتاحة المجال لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، والتي تمثل بالنسبة لبريطانيا وللغرب قاعدة لحماية المصالح الرأسمالية الغربية في المنطقة وجزء من الترتيبات التي اعتمدتها اتفاقية سايكس- بيكو، وتتفق الكثير من الآراء والتحليلات ذات الصلة بالمسألة اليهودية على أن الرأسمالية الغربية الإستعمارية الإكراهية قد نجحت في فرض وجود الكيان الصهيوني بذرائع اسطورية توراتية دينية كاذبة لا علاقة لها بمفهوم الشعبية ولا أصل لها ولا سند شرعي أو قانوني على الإطلاق .
وكان للأنظمة العربية العميلة للغرب بلا شك دور فعال في نجاح بريطانيا والغرب في زرع إسرائيل وكيانها اللقيط في فلسطين من خلال التماهي مع هكذا مشروع وعدم الإعتراض عليه مد جسور للعلاقة السرية معه وخطاب وده ورضاه والتطبيع معه، ولم تخف بريطانيا أو تتحفظ على ما كانت تسعى وتخطط له لزرع كيان غريب في المنطقة، بل إن رئيس وزرائها "دزرائيلي" في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي أعلن عن تلك الرغبة والغاية وأكدها صراحة بقوله: "لو لم تكن هناك حركة صهيونية، لقمنا بصناعة حركة صهيونية"، وعلى ضوء هذا المُعطى والحقيقة لا غرابة من أن يحرص النظام الرأسمالي الغربي الجديد التي كانت بريطانيا ولا زالت تعد جزء أساسي منه على إعادة احياء الطابع الديني للمسألة اليهودية وتشجيع الفكر الصهيوني ورواده، وذلك في تناقض واضح وغريب مع ما عرف بعقلانية عصر النهضة الأوروبية وفلسفته التنويرية والإنسانية القائمة على الديمقراطية والمواطنة المتساوية، وغير ذلك من المُثل والقيم والمبادئ التي روجها الغرب وزعمها لنفسه ليخدع العالم بها وينسبها زوراً وبهتاناً لحضارته التي قامت على إبادة ملايين البشر وارتكاب الجرائم بحق الشعوب التي استعمرها الغرب ونهب خيراتها وسام أهلها سوء العذاب .
..... يتبع .....