كتابات | آراء

إسرائيل بين تهاوي النموذج وحتميّة الزوال

إسرائيل بين تهاوي النموذج وحتميّة الزوال

تكمن مصداقية القول بحتميّة زوال الكيان الإسرائيلي برصد العوامل التي أمدته بالاستمرار، فمن دون تبيان انتفاء هذه العوامل يصعب وصم هذا الطرح بالعقلانية، سيّما، وأن الحديث عن حتميّة زواله ليس بالأمر الجديد،

فقد لازم الكيان منذ تأسيسه حتى الآن حيث بلغ بقاؤه ستة وسبعون عاماً، على الرغم من محدوديّة مساحته وسكانه والإمكانيات، نسبة الى ما يحيطه من دول تفوقه في ذلك بعشرات الأضعاف، وهو على تناقض معها في العقيدة والقيم والتاريخ ولطالما حفر في الوعي تعليل ساد، بأن بقاء كيان العدو هو رهن لعامل خارجي فقط، الغرب تحديداً، لما يوفّره له من دعم شامل وغير محدود، وقد ثبت قصور هذا التعليل، لكونه قد تغافل عن سنن أكّدها التاريخ، بأن قدرة أي كيان على البقاء وسط تهديدات تحيطه من قريب، لا يمكن أن يستند بذلك حصراً على دعم يأتيه من بعيد، وإنّما بقاء الكيان هو متين الصلة بعوامل ذاتية وأخرى من المحيطين به ويتبيّن في العوامل الذاتية، أنّ اليهود الصهاينة على الرغم ممّا يحيطهم من تحديات قد دفعوا لمواجهتها أثماناً كبرى، إنّما تاريخهم لا يشير إلى تعديل جوهري في منظومتهم العقائدية والقيمية وتطلّعاتهم السياسيّة.
فمن خلال جولة سريعة في هذا التاريخ، يلاحظ أنّهم منذ احتلالهم فلسطين وهم على انسجام كبير مع هويتهم، فهم بأغلبيتهم الساحقة- كانوا ولا يزالون- صهاينة تلموديين إلغائيين للآخر إلّا بقدر ما ينفع مصلحتهم ويتبيّن كم أنّ لثبات هويتهم دور أساس في تقديم نموذجهم، والذي بدوره ثبّت دعائم كيانهم، وليس العكس. لقد شكّل نموذجهم ضميراً جمعياً أعانهم على اللحمة رغم التناقضات بين مكوناتهم، وعلى تجاوز التحديات المهددة لوجودهم، كما أعانهم على محاكاة نموذج الغرب بحيث استجلبوا من خلاله بعداً إضافياً أوجب لهم المزيد من الدعم والحماية أمّا العوامل المحيطة بكيان العدو، من دول عربية وإسلامية، تظهر الوقائع حجم التشتت على مستوى هويتهم وعجزهم الدائم عن تقديم نموذج جاذب ومؤثر، ما أسهم في مدّ كيان العدو قدرة على البقاء والاستمرار. بحيث يمكن وصف حالنا مع الصهاينة بما يشبه دفّتي الميزان، فما كان لثبات هويتهم أن يبني نموذجاً يجمع شتاتهم بدهاء، إلّا لأننا ابتعدنا- بوعي أو بلا وعي- عن أصالة هويتنا فقدمنا نماذج مشوّهة شتّت جمعنا بغباء ولطالما جاهرت المجتمعات المحيطة بالكيان بتعدد هويّاتها إلى حد التناقض والاقتتال، فأدخلت فلسطين في متاهة صراعاتها حتى نزعت عنها الهويّة الجامعة، والمُوحّدة، إذ صارت سنيّة لا دخل للشيعة في تحريرها، وهي عربيّة إن نصرها العجم والترك وغيرهما عدّ ذلك مؤامرة واعتداء، وهي قضيّة دينيّة أكثر من كونها إنسانيّة عالميّة، وهي تعني مسيحيي الشرق لا علاقة للغربيين بها، وآخر الإبداعات، أنّها تخصّ الفلسطينيين وحدهم دون سواهم وفيما وجب الإقرار بدهاء الغرب في إصراره على زرع الكيان الإسرائيلي على أرض فلسطين، وجب أيضاً الإقرار بذكاء محور المقاومة في إصراره على إزالة هذا الكيان. لقد ثبت بأن الموارد الكبرى والجهود المضنية التي بذلت لاتحاد المجتمعات العربية والإسلامية، واستقرارها، وتطورها، إنّما فشلت لأنها لم تنطلق من حقيقة مؤكدة بأن تحقق هذه المطالب في ظل وجود هذا الكيان هو هباء وغباء.
إنّ ما يشهده العالم من وقائع حرب طوفان الأقصى، في انتقال جبهة المقاومة من الدفاع إلى الهجوم، هو استكمال لانعطافة كبرى بدأت على مستوى قضية فلسطين والنظرة إلى كيان العدو، تأثيراً وبقاءً، وهي من دون مبالغة انعكاس لتغيّرات بارزة أحدثتها المقاومة ومحورها على مستوى الهوية والنموذج، والتي فرضت بالضرورة انكشاف هوية العدو وتهاوي نموذجه فعلى الرغم من قساوة مشهديات الحرب الدائرة الآن، شهداء، جرحى، دمار، وأوجاع لا توصف، وإنّما يكمن فيها إيجابيات كبرى، كونها تُخضع الوعي إلى ما يمكن وصفه بالعملية القيصرية التي تحرره من أثقال الماضي والأوهام، فالميدان ليس مجرّد مجال حسم لصراع عسكري، وإنّما هو انكشاف لحقيقة الهويّات ونماذجها أولى رسائل الميدان، تهاوي صورة (شعب الله المختار) الأقوى الذي لا يمكن الجرأة عليه، المُطبق على السماوات والأرض والعالم بخفاياها، صاحب الكلمة الأولى والأخيرة، من يُملي الشروط ويفرض التنازلات، فهذا (نتنياهو) آخر ملوك بني إسرائيل، يُعلن انتهاء حقبة المكانة الكبرى لليهودي الصهيوني، حيّاً كان أو رفاتاً، وإنّما أقصى غاية (إسرائيل) في استعادة ما فقدته من صورة رادعة، مُهابة، ومخيفة للآخر، والتي ثبت أنها ركيزة النموذج، فانتفى بذلك تماسكها الداخلي، والقدرة على ثبات الوجود..
وفيما جهد الغرب لجعل الإرهاب صفة لصيقة بحركات المقاومة، وأن كيان العدو هو النموذج الحضاري في هذا الجانب من الشرق، صار الكيان فاضحاً لنموذج الغرب، ومداناً من أعلى محكمة عدل دولية، وفي كبرى ساحات الرأي العام العالميّة، لكونه المرتكب عن سابق إصرار وترصّد، جرائم الحرب والإبادة الجماعية، والمنتهك لحقوق الإنسان، قاتل النساء والشيوخ والأطفال وتتوالى رسائل الميدان لتُنبئ عن المزيد من افتضاح النموذج الإسرائيلي، فصفة الكذب صارت سِمةً أساسيّة لقادة العدو، وباتوا ينافسون قادة عرب في فسادهم، وفي استئثارهم بالسلطة، وفي تضليل الرأي العام وإيهامه على الدوام، حتى بات المستوطنون الإسرائيليون يثقون بما يقوله قادة المقاومة، ويتعاملون بريبة عالية مع قادتهم وأكّد الميدان حقيقة الهوية الصهيونية وهي تصنع وحوشاً وليس بشراً، كما وصفهم وزير أمنهم السابق، موشي دايان، بالكلاب المسعورة التي يجب أن تخيف الآخرين دائماً، فتلاشت تلك الجهود المضنية والموارد الهائلة لتقديم الإسرائيلي بوصفه إنساناً يمكن التطبيع والتعايش معه. وفيما المقاوم إن دخل منزلاً يترك رسالة يذكر فيها ما استخدمه، باتت الكاميرات توثق الجندي الإسرائيلي وهو يقتحم المنازل لسرقة أموال الناس والأثاث وجني العمر.
بضعة أشهر مرّت فزادت هويّة أصحاب الأرض الحقيقيين وضوحاً، فمع الاختلاف الكبير بين ما يواجه الإسرائيلي وما يواجهه الفلسطيني، ظلّ الأخير وبشكل بطولي وأسطوري ينغرس بأرضه حتى الشهادة من دون استسلام، بينما بدأ الإسرائيلي جدياً رحلة العودة إلى وطنه الأصيل، فتلاشت تلك السرديّة التلموديّة عن أرض الميعاد والوطن النهائي ووسط تهاوي النموذج الإسرائيلي، يبشّر الميدان بمشهدية لمّ الأحرار شملهم، السني منهم والشيعي الدرزي والمسيحي، العربي والعجمي، الديني والقومي، الشرقي والغربي، لقد أضحت المقاومة جبهة تمتد وينمو اقتدارها لا يقتصر هدفها على إقامة دويلة فلسطينية بل إزالة الكيان الإسرائيلي، لكي تستعيد دول المنطقة ومجتمعاتها، أمنها، استقرارها، وفرصة استغلالها الأمثل لمواردها بما يحقق لها تقديم نموذجها الحضاري في الحياة. وفيما كان التهكّم يحاصر من يقول بحتمية زوال الكيان الإسرائيلي، صار بداخله كثر ينافسون في ذلك ويضربون له مواعيد. ويبقى الخير فيما حصل .
# أستاذ في الجامعة اللبنانية، وباحث في الاجتماع السياسي

أخبار الجبهات

وسيبقى نبض قلبي يمنيا
لن ترى الدنيا على أرضي وصيا