تفكيك البنية السياسية.. رؤية تحليلية للمسار الثوري اليمني
أصبح من البدهي القول أن الحروب لا تترك إلا أثراً مدمراً في الحياة بكل تموجاتها النفسية والثقافية والاجتماعية، وكل ذلك قد ينعكس على السلوك السياسي الذي يتفاعل مع ذلك الأثر إلى أن يصبح فعلاً تصادمياً حتى مع قيم الخير والسلام والحق والعدل.
والقارئ المتأمل في مجريات الحدث السياسي الذي احتضنه القرن الماضي يدرك أن اليمن لم يخرج من بوتقة الصراع إلا ليعود إليها محملاً بكل تراكمات الماضي وأوجاعه كما أن المتأمل أيضاً يدرك أنَّ ذلك الصراع لم يكن صراعاً موضوعياً بل كان ذاتياً والأمرَّ من كل ذلك أننا لم نفكر في لحظاتنا العابرة بمشروع حضاري يستطيع أن يقودنا إلى مخارج مثمرة ويجتاز بنا دوائرنا المغلق التي وضعنا أنفسنا فيها وأغلقناها علينا.
أنا لا أنكر أن الميثاق المقدس كان نواة مشروع بيد أن الثابت تاريخياً أنه لم يكن مشروعاً يمنياً بل كان وافداً لكنه استطاع أن يستلهم بعص الخصائص الوطنية في مضامينه ويلبي جل طموحات مشروع المد الديني في أربعينات القرن الماضي - مشروع " الإخوان المسلمون " - في بعده النظري القائل بأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن , فالمشروع حسب معطيات عصره تداخل فيه القومي مع الوطني لكنه ولد مقتولاً كما يبدو على اعتبار أن الذي حدث بعد حركة الدستوريين في 1948م لم يكن امتداداً لها بل كان منقطعاً عنها من حيث الفكرة والسلوك والطموح ومن حيث المناخات الجديدة التي أفرزتها ثورة 23 يوليو في مصر والتي كان لمشروعها الحضاري القومي أثراً في عموم الوطن العربي مع استثناءات قليلة.
ذلك الأثر لثورة يوليو كان له مسارات واتجاهات عدة في مسار الحركة الوطنية، فقد كان موضوعياً فاعلاً وكان ذاتياً منفعلاً، وحين أقول موضوعياً فاعلاً أكون ناظراً إلى المناخات التي هيأها للحركة الوطنية المعارضة للحكومة المتوكلية بصنعاء وحين أقول ذاتياً منفعلاً أكون ناظراً إلى أثر وانعكاسات الحلف الثلاثي الذي تم الإعلان عنه في 1958م بين مصر والسعودية واليمن وأثر ذلك على نشاط الحركة الوطنية الذي وصل في آخر المطاف إلى استبعادها من واجهة الفعل والحركة واستبدالها بقوى لا تمت إلى الحركة بصلة ولا إلى التأريخ النضالي الوطني ولكنها جاءت طارئة وقد املاها الظرف السياسي المنفعل بعد مؤتمر الحج عام 1961م في جدة الذي قال بتكفير عبدالناصر حين أ علن تطبيق الاشتراكية العلمية وقد مثل اليمن القاضي عبدالرحمن الإرياني فيه، وقال الإمام أحمد أرجوزته الذائعة الصيت في الاشتراكية مما أوحى للذات المتحالفة مع اليمن والسعودية إعلان الحرب على الرجعيين (حسب دلالة المصطلح في زمنه)، كان من نتائج ذلك الظرف ثورة 26 سبتمبر عام 62م في صنعاء التي قادها مجموعة من الضباط على غرار ثورة 23 يوليو في مصر بيد أن الفارق بين الثورتين : أن الأولى حملت مشروعاً حضارياً ونظرياً , والثانية جاءت تكراراً وربما قراراً منفعلاً في لحظات تاريخية ضاغطة , بدليل غياب الحركة الوطنية التاريخية واستبعادها كلياً أو جزئياً من مجريات الحدث السياسي في بداية عقد الستينات من القرن الماضي وما تلاه , وقد أوحت حرب السنوات السبع التي أعقبت الثورة – في ظل غياب المشروع الوطني – بأنَّ القوة هي المنطق الأقوى في إدارة شؤون البلاد، لذلك كان تحالف القوى القبلية التقليدية عامل ضغط أفسح المجال لأطياف الماضي في البقاء وغيّب مظاهر الانزياح إلى الغد أو المستقبل وأحبط كل المشاريع الهادفة إلى بناء الدولة المدنية الحديثة التي كان يتطلع إليها كل التقدميين من أبناء الوطن.
إذن يمكن القول أن هناك منازع شتى تجاذبت الفعل السياسي اليمني وحصرته في دوائر الذاتية وخرج من أطره الموضوعية أو الوطنية الخالصة إلى صبغة الذات وهو الأمر الذي حدا بعبدالله البردوني إلى القول في كتابه "اليمن الجمهوري"، بتعدد الجمهوريات فقال بالجمهورية الأولى والثانية والثالثة والرابعة، وتحدث عن كل جمهورية باعتبارها جهداً ذاتياً لا تصدر عن رؤية وطنية واضحة المعالم.
تلك الجمهوريات اختصرتها الجمهورية الرابعة الأطول أمداً والأكثر تجسيداً لمنطق القوّة، إذ رأت في مبدأ الرقص على رؤوس الثعابين" مشروعاً خاصاً سلب الوطن خياراته المستقبلية في مقابل البقاء وطول الأمد، ولم تكن الشراكة الوطنية في الجمهورية الرابعة للعقل العلمي الممنهج بل كانت للأقوى عدداً وتأثيراً وزعزعة الأمن واستقرار الوطن حتى أنّ الجبهة الوطنية في الثمانينات لم تنل حظاً لها في الخارطة السياسية إلا بعد أنّ أيقنت تلك الجمهورية بقوتها وتأثيرها في المسار الوطني.
ذات المنطق كان مسيطراً على قرار الحرب في حرب صيف 93م وهو ذاته من أدار حرب صعدة، ودفع حراك الجنوب إلى التصادم.
ثمة اسئلة تطرح نفسها في واقعنا السياسي كيف انتهت حرب صعدة؟ ولماذا بدأت أصلا ؟ وكيف انتكست رايات الانفصال ؟ وبهت صوت أصحاب الحراك في الضالع وأبين ولحج؟ وكيف سكت طارق الفضلي؟
علامات الاستفهام ما زالت ترسم نفسها في منطق الفعل والحدث ومجرياتهما .
كل الذي يبدو لنا أن الإنسان الأكثر ادعاءً للوطنية الأكثر خدشاً في حياء الوطن والأكثر تفريطاً وإهداراً لمقدراته وهذا ما نلمسه .
كما أن الحرب على اليمن بدأت منذ وقت مبكر , فقد كانت الوحدة مشروعا مهددا لبعض دول الاقليم , وقد كشفوا عن ذلك والكثير مثبت , فالأمارات خاضت مع اليمن حربا اقتصادية ناعمة , وعبر الشيخ زايد عن عدم رضاه عن الوحدة روى ذلك الشيخ الاحمر فير مذكراته , وظلت السعودية تخوض حربها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية وتدير ملف الجماعات المتطرفة في عموم اليمن .
وكان العدوان على اليمن هو الخيار الصعب الذي كشف كل الأوراق , وها هي اليمن على مفترق طرق , طريق دل عليه الماضي وتقوده أدوات الارتزاق والعمالة , وطريق يبحث عن اليمن والمستقبل والعزة والكرامة ويقوده الجيش واللجان الشعبية بقيادة أنصار الله وكل القوى الوطنية الشريفة .
ولابد لنا من صناعة الغد من خلال الحاضر الذي لونا جدرانه وآفاقه المتعددة بالدم الاحمر القاني بحثا عن اليمن وعن كرامته وسلامة اراضيه .