كتابات | آراء

حاجتنا الى مشروع نهضة وطنية

حاجتنا الى مشروع نهضة وطنية

يقول (ديبتر سنغاس) أن المجتمعات المهيأة للتحديث تتصارع في داخلها مع نفسها ويلاحظ أنه كلما تقدمت عملية التحديث كلما زادت الهوّة بين القوى التقليدية والتحديثية وزادت حدّة الصراع،

ويقول أنَّ المجتمعات القائمة على التعددية بوضوح لا مراء فيه، لا بد أن يضع التحول فيها هيكل النظام موضع التساؤل والحوار الصريح، وحيث تجري عملية التحديث وتنشأ التعددية يصبح من أهم المهام الثقافية وأعظمها، الكشف أو ابتكار نظام يتلاءم مع حاجات كلّ فرد، نظراً لأن الثقافات التقليدية لا تعرف شيئاً عن هذا الشكل الحديث للتعددية فإن هذه المهمة تستلزم حتماً مجابهة المجتمعات لتراثها التقليدي وأطرها التقليدية، وبذلك يصبح الحزب في عملية تحديثية تفرضها عليه اللحظة السياسية والحالة الابتكارية لأنه يدرك حتماً مراقبة الجماهير لتموجاته ويدرك وعيها الثاقب بحالة الثبات والتحجر التي يعانيها في مكوناته وبحضور السؤال العام للتحديث والمستقبل بالضرورة يحضر السؤال الخاص في التطوير والتجديد والتحديث في هيئة الحزب ومكوناته التنظيمية العامة كضرورة تفاعلية مع اللحظة الجديدة وحين تحتك الأحزاب والمنظمات الاجتماعية والسياسية بالضرورات والحاجات تخرج من حالة ثباتها ومن حالة الفراغ الثقافي والحضاري وتحاول الولوج إلى  الحوار بقدر كافٍ من الامتلاء..., والامتلاء الثقافي والحضاري يعمل على تجويد مخرجات الحوار وهو بالضرورة يشتغل اشتغالاً عضوياً ومتناسقاً وعلى نقيض ذلك إذا ذهبت المكوّنات الاجتماعية والسياسية إلى الحوار لأنها سوف تأتي الطاولة الحوارية من فراغ والفراغ لا ينتج إلا فراغاً وتشظياً وفوضى ولن يكون قادراً على خلق حالة سياسية متغيرة ومستقرة بل حالة ثابتة وغير مستقرة.
ولعل جذر الأزمة التي يعيشها الوطن يمتد إلى نتائج حرب صيف 94م تلك النتائج التي استبدلت مشروع الدولة بالسلطة، وكرست في الوعي الجمعي المفهوم القديم للدولة القائم على الهيمنة وتمجيد الرموز,  لقد تماهى الوطن حتى أصبح فرداً، تدور به وحوله الأحداث والتبس مفهوم الدولة بالسلطة مما أفقد الدولة مقومات وجودها وضرورات تعبيرها عن الكيان الجمعي وتعاطيها مع تطلعاته ومبادئ وأسس المواطنة وفق أفقها النظري.
ما يجب إدراكه في الراهن الحضاري الجديد أن ثمة فرقاً في المكون الثقافي بين النقيضين اللذين اتحدا عام 90م، هذا الفرق هو ذاته الذي بلور ملامح حرب 94م وهو ذاته من يقود البلاد إلى أزمتها الراهنة.
ويتمثل ذلك الفرق في التباس مفهوم الدولة والسلطة عند أحد طرفي المعادلة السياسية وإدراك الطرف الآخر له في بعده النظري ثم كانت نشوة الانتصار في 94م عامل عجز وإعاقة في تطور المجتمع بما يكفل للمفاهيم السياسية والحقوقية الارتياح المعرفي والنظري إلى ما يجب أن يكون عليه الحال من التمييز بين الظواهر والقيم المعرفية والأخلاقية.
لقد أصبح الفرد لا يميز بين الدولة والسلطة إلى درجة سماعك من يقول إن المشروع التنموي والمرتب هبة من رئيس الدولة ذلك لكون المفهوم الثابت في ذهنه أن الدولة هي الرئيس.
هذا المفهوم الخاطئ لم يدرك التحول الديمقراطي الذي حمله مشروع الوحدة بل إن حرب 94م ونشوة الانتصار عملا على إعادة إنتاجه ظناً أن ذلك سيحمي الوحدة من التشظي في حين أنه كان سبباً في كل هذه الانهيارات القيمية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية.
وعلينا أن ندرك أن السلطة في النظام الديمقراطي ذات بُعدين لا ثالث لهما بُعْدٌ داخل الدولة، وبعد خارج الدولة، فالسلطة التي تكون داخل الدولة هي سلطة القانون، بمعنى أن الدولة تشكل طرفاً دستورياً محايداً، وبحيث يصبح مسئولو الصف الأول موظفين ترتبط سلطتهم بالقانون من جهة وبالفترة الانتخابية المحددة من جهة، وبذلك يتعذر على الأفراد والعشائر والأحزاب الحكم إلى الأبد، هذا أمر والأمر الآخر أن هذه السلطة تتنازعها ثلاث هيئات أو مؤسسات هي التنفيذية، التشريعية القضائية بمعنى أنها ليست حكراً على أحد ولكنها سلطة عاملة في إطار منظومة متكاملة هدفها تحقيق غايات الوطن وتلبية طموحاته في سياق يضمن الحد الأدنى من الانسجام والتوازن بما يعزز من قيمة الدولة وكيانها الاعتباري أمام المجتمع الدولي وفي ذات السياق يكفل لها التحرك في أداء مهامها في المساحات المنصوص عليها في الدستور والقانون دون ضغط أو وصاية من أحد وهي بذلك تحد من الفوضى والارتجالية ومخالفة القانون كما تحد من تسلط «الأنا» وغرورها اللامتناهي.
أما السلطة التي من خارج الدولة فتتمثل في الأحزاب والنقابات والجامعات والنوادي والمراجع الدينية والثقافية وتستمد هذه السلطة قيمتها ووجودها من القانون الذي ينظمها ويحدد علاقتها الجدلية بالأطر التنظيمية الأخرى، كما تستمد شرعيتها من قدرتها على تمثيل الشرائح التي تعبر عنها، ومن قوتها وقدرتها على التأثير في المسارين السياسي والاجتماعي.
ومن خلال النظام الديمقراطي الذي مثل خياراً لدولة الوحدة في كل أبعاده النظرية التي تعارف عليها المجتمع الدولي يمكن تحقيق مبدأ العدالة والمشاركة والتداول السلمي للسلطة.
ومن هنا ندرك أن التباس مفهوم الدولة والسلطة عند طرف من أطراف المعادلة السياسية وإدراك الطرف الآخر له نظرياً ومعرفياً، هذا الإدراك يضعنا أمام نوعين، بإمكاننا ذهنياً التمييز بينهما:
- النوع الأول: هو ذلك النوع الذي لم يستوعب النظام الديمقراطي وساعدته المناخات والطقوس على إعادة إنتاج الماضي، ولذلك نجد عقدة الخوف من الآخر ما مازالت تحكم حلقتها عليه، وهو يعيش في فراغ لا يدري كيف يرتب أولوياته ومفاهيمه فيه، لذلك أصبحت كل توازناته التي استحدثها سيفاً مصلتاً على رقبته ، وهذا النوع كان قائما على التحالفات وكان ينتج الأزمات ويديرها ولكنه لم يصنع تنمية وطنية بمفهومها الشامل، وهو بذلك يكون قد طوّع سلطة الدولة لدولة سلطة وهناك فرق كون ذلك يعني أن مؤسسات الدولة وقوانينها ودستورها وكل أجهزتها وتشريعاتها مسخرة لتحقيق مصالح السلطة وبالتالي يُصبح الوطن وثرواته ومواطنيه ملكاً له - أي لذلك النوع- ومثل ذلك مقروء لمن ألقى السمع أو كان بصيراً، يمكن ملاحظته من خلال التعديلات الدستورية المتلاحقة التي تحدد فترة الحكم أو من خلال التدخلات في المهام الدستورية للسلطة التنفيذية .
- أما النوع الثاني وهو النوع الواعي والمدرك للمتغيرات بيد أنه في طور التكوين هذا النوع يحاول تأصيل ثقافة المتغير الحضاري ويعمل على تحديد المفهوم وفق أبعاده النظرية ويحاول تكريسه في الواقع وهو في ذات السياق يستوعب معطيات الواقع ويتعامل مع أبعاده، كما يعمل على تطوير الثقافة الحقوقية وينظر إلى المستقبل واستحقاقات الأجيال القادمة بنظرة فيها قدر من المسؤولية التاريخية. وبين هذين الوعيين المتضادين تكمن جذوة الصراع التي يعيشها الوطن في لحظته الحضارية الراهنة وهي نتاج تراكم تاريخي وليست وليدة حاضرها.
ويمكن القول إن الثورة في شمال الوطن سابقاً لم تنجح في بناء دولة وكل المحاولات الرامية إلى تأسيس دولة تم وأدها في مهدها في مقابل تعزيز الفوضى واللا إنتظام  واستمرار سلطة الشيخ المتحالف والمتغلغل في المؤسسة العسكرية وفي مقابل ذلك كانت هناك دولة في جنوب الوطن قامت على أنقاض مستعمر عزز ثقافة المناطقية وقيم الصراع وقد تجلت ملامح تلك الثقافة في الصراعات السياسية التي وصلت ذروتها في أحداث 13 يناير 1986م.
ومع غياب المشروع الوطني لدولة الوحدة الذي كان من المفترض أن ينبثق من وثيقة العهد والإتفاق وجد الماضي له منفذاً ذلك لأن الفراغ يشتهي الامتلاء حسب تعبير «البردوني»، ومن هنا وجدت المشاريع الصغيرة مناخاً لها كي تعيد إنتاج الصراعات وفق قيمها الثقافية الماضوية، وإذا أمعنا النظر في الخطاب وجدنا مفردة «مستعمر» و»محتل» و»مغتصب» و»شمالي» و»جنوبي» و»دحباشي».
إذن الصراع هنا بين ماضٍ يعيد إنتاج نفسه وحاضرٍ لم يتحقق فيه البديل النظري ولا المشروع الحضاري المستقبلي بل كان يشكو الفراغ، ذلك الفراغ كان مناخاً مناسباً للماضي كي ينمو فيه ويترعرع ليصبح حراكاً لا يحمل مشروعاً ولكنه يبحث عن وجود.
من هذا المنطلق يمكن القول إنه لابد من تحول نوعي في كل البنى الأساسية في الدولة بحيث ينسجم ذلك التحول مع الأفق النظري للنظام الديمقراطي الذي كان خياراً لا رجعة عنه وعلى الفعاليات السياسية والاجتماعية والثقافية إدراك مسؤولياتها الوطنية في ترسيخ مفهوم التحول وإشاعة روح الشراكة.
خلاصة القول الوطن بحاجة –في لحظته الراهنة- إلى مشروع وطني نهضوي يعيد بناء الدولة ويستوعب المشاريع الصغيرة في إطار منتظم جامع وشامل بعيداً عن سياسات الترقيع والمعالجات الآنية التي تحمل في طياتها عوامل الفناء وأسباب التمزق.

أخبار الجبهات

وسيبقى نبض قلبي يمنيا
لن ترى الدنيا على أرضي وصيا