الخروج من أقبية الماضي الى رحابة الغد
الاشتغال الثقافي على ملامح المرحلة القادمة ضرورة جوهرية وأية قوة وطنية أو سياسية ترغب في البقاء في معادلة المرحلة لابد لها من مشروع ويتوجب عليها الاشتغال عليه بما يكفل له النفاذ إلى وجدان ووعي الجماهير,
فالضرورة الاجتماعية الجماهيرية هي التي ترسم نفسها على معالم المرحلة , ولن تستطيع فعل ذلك إلا بالوعي وبالالتفاف الجماهيري حول مشروع حضاري واضح الأبعاد والرؤى , بعيداً عن المزايدات والشعارات الزائفة.
ولعل طبيعة المرحلة وإفرازاتها تضع اليمن أمام قضية وجود، ووجوده لا يتحقق إلاّ من خلال قدرته التفاعلية وقدرته الديناميكية في التجدد والتحديث والاشتغال الثقافي المستند على مشروع حضاري تكون المدنية ومظاهرها أبرز تجلياته ، ومثل ذلك العمق يُحتم عليه تفعيل إمكاناته وتفجير طاقاته وتوظيفها بما يخدم الدولة المدنية الحديثة، وذلك بالاشتغال على مشروعها الذي يفترض به أن يكون تعبيراً نظرياً وثقافياً عن قوى المجتمع الحداثية والقوى الأكثر تطلعاً إلى المستقبل.
فاليمن أمام منعطف تاريخي مهم في تحقيق وجوده وقدراته وفاعليته أمام القوى التي ترى في تفكيك منظومته وجوداً حيوياً وفاعلاً لها كبعض القوى التقليدية والاجتماعية، ومواجهة مثل تلك التحديات دون مشروع واضح الأهداف والمعالم والأبعاد لن يجدي .., ذلك أن مهمة اليمن الآنية والمستقبلية لابد أن تسير في خطين متآزرين هما خط التفكيك النظري والثقافي , وخط البناء وتوسيع دائرة الوعي والالتفاف الجماهيري بالطرق والوسائل الفنية الحديثة، فالفنون والآداب حياة مكرّسة قادرة على فتح عوالم المستقبل في الوجدان الجمعي , وقادرة على صناعة موقف جمعي من قوى الإقصاء والابعاد والفناء والتدمير - أقصد قوى العدوان - ، فبقاء فاعلية اليمن رهن قدرته على اقتناص اللحظة التاريخية للتحول والتحديث والانتقال، فعبثية الماضي التي شاعت في مكوناته التنظيمية وفي الهيكل العام للدولة والمؤسسات وفي البنى الثقافية لن تكون إلا فناءً مؤجلاً إذا استمرت هي نفسها في هذا المفترق التاريخي الذي تمر به اليمن.
فالبعد الثقافي هو المتجدد الأهم , وهو البعد الاهم في التحول والتجديد والتحديث في ظل ما يشاع حول جدل المفهوم للدولة المدنية وهو مفهوم نملك القدرة على تحديده وضبطه وفق طبيعة مجتمعنا ومعتقده وثقافته , ومثل ذلك ليس بالأمر الصعب , وأجد نفسي على يقين كبير بأن الذين يقولون بالتضاد بين الإسلام وبين الدولة المدنية الحديثة إنما يحاولون التشبث بالهالات والقداسات التي صادفت هوى في أنفسهم ولم تكن من الإسلام في شيء , من مثل تحريم نقد الحاكم أو العالم الديني من حيث تسفيه أو تفنيد الفعل أو الرأي، وبالعودة إلى صفوة العلماء كأبي حنيفة والشافعي والإمام زيد وغيرهم لا نجد إلا روحاً عالية صفاءً واشتغالاً معرفياً دون تعصب لرأي ودون هالة أو قداسة بل إن الزيدية تقول بجواز الخروج على الحاكم إن كان ظالما مخالفا للشريعة , فالقضية لدى صفوة العلماء والفقهاء الذين تركوا أرثا ثقافيا مؤثرا له اتباع , ومسارا ثقافيا ما يزال فاعلا , هي قضية اجتهاد والاجتهاد رأي والرأي يحتمل الصواب والخطأ والعالم يظل بشراً ولا قداسة له ولحمه غير مسموم، فالكهنوتية التي تسللت إلى فراغاتنا الحضارية والثقافية عبر حقب التاريخ وفجواته ليست من الدين في شيء, والذين يدعونها اليوم ليسوا من الإسلام في شيء ولكنهم يبحثون عن عرضٍ من الدنيا زائل (بهرج وسلطان وقداسة) وقد رأينا كيف تناقضت مواقف بعض الجماعات من موضوع الإساءة للرسول عليه الصلاة والسلام بين الأمس واليوم وأخص جماعة الاخوان والجماعة السلفية ، فالقضية الدينية وفكرتها لا تكاد تتجاوز عتبة الذاتية وظلالها القاتم بدليل الموقف المعلن من التطبيع ..., وفي مقابلها نجد الانبهار بالنمط الغربي وهو ذلك النمط الذي يتقبل الفكرة في كلياتها ولا يعمل على تحريك وظائفه العقلية في التجزئة والتحليل والمقارنة ..., ونقل التجارب لا يعني مطلقاً التقدم والعصرنة والتحديث , فالقضية المدنية قضية معقدة ولا يمكنها أن تتحقق بمنأى عن العوامل الجوهرية المساندة وبمنأى عن المعوقات الموضوعية وخصوصية المجتمعات، لذلك فالقول بالدولة المدنية كشعار فضفاض تفاعلاً مع المرحلة السياسية لا يعني مطلقاً قدرتنا على التأسيس لها، ومن هذا المنطلق يتوجب على كل القوى إدارة الندوات وحلقات النقاش وتفعيل دور الأوراق البحثية بالاستعانة بالكوادر العلمية والبحثية حتى نتمكن من صياغة مشروع سياسي ناهض يكون هو العلامة الأبرز في تجليات المرحلة القادمة ومن خلال ذلك نعرف الدولة المدنية كما نريد أن تكون لا كما هي في تجارب الآخر المغاير لنا في الرؤية وفي المعتقد وفي الثقافة , لقد أبدعنا في سالف أيامنا واقعا ترك أثرا على التجمعات الانسانية جمعاء ونحن ما نزال تملك القدرات الذهنية والابتكارية في صناعة زمننا الذي يدل علينا لا على سوانا .
وليس بخاف أن جماعة أهل السنة حين عطلت قدراتها العقلية غاب عنها أن الإسلام مدني بطبعه وفطرته وأنه وضع حداً موضوعياً فاصلاً بين القروية والمدنية وأن وثيقة المؤاخاة بين المسلمين في المدينة كانت بمثابة أول دستور ينظم الحياة المدنية في التاريخ وأن روح المساواة يمكننا استنباطها من حركة التاريخ التي تجسدت في الخلفاء الراشدين، فأبو بكر في أول خطاب له يؤسس للتعدد والمعارضة حين قال: لقد وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني، وتلك هي العلاقة الجدلية بين السلطة والمعارضة، وعمر ابن الخطاب يقف على المنبر قائلاً للناس: اسمعوا وأطيعوا فيقوم له سلمان الفارسي قائلاً: له لا سمع ولا طاعة، كيف لك تستأثر لنفسك بثوبين وتهب الناس من ثوب واحد.. عدالة اجتماعية ومساواة وعدل.. والإمام علي- كرم الله وجهه- يقف على قدم المساواة أمام القاضي شريح وهو أمير المؤمنين وخصمه يهودي مثل ذلك- وغيره كثر مبثوث في كتب الاخبار والسير والتاريخ- هو مظاهر وقيم الدولة المدنية الحديثة التي فلسفها الفكر الإنساني عبر مسار تطوره حتى وصل إلى مظهرها الحديث أما المثلية فهي مظهر أخلاقي تنبذه الفطرة السليمة وقد ضبطه النص الشرعي ولا معنى للقول به أو الخوض فيه فقيمة الإسلام الإضافية تكمن في اشتغاله على البعد الأخلاقي وضبط معياريته بالنص المقدس بعكس الأديان الأخرى التي كان اشتغالها على البعد الروحي فقط لذلك شاعت في مجتمعاتها المظاهر الأخلاقية غير السوية وغيرها من السلوكيات الشاذة التي تتنافى مع الفطرة وطبيعة الإنسان العربي على وجه الخصوص.
لقد دلت أحداث التاريخ أن كل جديد لا بدَّ أن يكون له أعداء من مكونات الماضي وتجلياته ومظاهره.., ودافع الخوف من الجديد هو الذي يهدِّد ملامح الغد ويأد أحلام التغيير, ولذلك لابد من الخروج من نفق الماضي بقبس يضيء أحلام المستقبل وأبعاده وألوانه .