بوح اليراع: قطرات من بحر الذكريات (١)
لقد أيقظت بعض عبارات مقالي الذي شيعت فيه أخي الغالي العميد الحقوقي (عبده أحمد الجمالي) بعضًا ممَّا علق في الذاكرة من مواقف أشخاصٍ مثاليين ارتأيت أن أنشر عبقها الفواح على النحو التالي:
(يحيى حزام غراب) حبيب الطلاب
لقد بدأت مشواري التعليمي في منتصف سبعينات القرن الماضي -شأني شأن أكثرية أبناء جيلي البررة- بتلقي الدروس في المقررات الدراسة المحددة التي كان يتلقاها أبناء معظم القرى وأنا أفترش الثرى مستنشقًا غباره تحت ظل شجرة من أشجار قرية (منزل غراب) وعلى يد المربي الفاضل (صالح هادي غراب) الذي كان يتجشم عناء تدريس طلاب جميع فصول تلك المدرسة الابتدائية بما توفر له من وسائل تعليمية بدائية.
وبالرغم ممَّا كان يُعهد عن الطلاب في تلك المرحلة أو في ذلك الطور من نفور من العملية التعليمية بسبب انعدام الوسائل التي ترغبهم فيهم وتجذبهم إليها، إلَّا أنَّ شخصًا من وجاهات تلك القرية التي صارت -جراء ما نزل بها من مصاب الخراب- كومة الحطام والتراب واسمه (يحيى حزام علي غراب) كان يمثل أحد وأهم أسباب اجتذاب كافة الطلاب لمواصلة التعلم والتأقلم مع ذلك الواقع التربوي المفتقر إلى الحدِّ الأدنى من الوسائل التعليمية الضرورية بما فيها الكتاب.
فلم يكن الوالد (يحيى حزام غراب) -جزاه الله عنَّا خير الجزاء- يمرُّ علينا ونحن نتعلم تحت ظل الشجر إلَّا باسمَ الفمِ منفرج الأسارير متجهًا إلينا -جميعًا دون استثناء- بنظرات حنانٍ وحنوٍّ أبويٍّ منقطع النظير ومتوجهًا إلينا وبلغة مبسطة تتناسب ومستوى فهمنا بنصائح الناصح الأمين التي كانت لنا -على الرغم من بساطة تحليلنا ومحدودية قدرتنا على التفكير- خير معين على مواصلة المسير في طريق التعليم الذي يعود على سالكه بالخير العميم ويهدي من اهتدى بهداه إلى الطريق المستقيم، ولم يكن -من ناحية أخرى- ينصرف بنظراته عنَّا حتى يتوجه بها إلى معلمنا المربي الفاضل «صالح هادي» غامرًا إياه بفيضٍ من الشكر والامتنان والعرفان على اعتبار أن ما يقوم به من تعليم الصبيان في ذلك المكان, وفي تلك الفترة من الزمان نوعٌ راقٍ من أعمال الإحسان التي لم تكن توفق إليها -وإلى حدِّ الآن- إلَّا قلةٌ قليلة من أبناء يمن «الحكمة والإيمان».
وممَّا كان يحمل على التفاؤل بمرأى ذلك الرجل الفاضل أنه كان يقف حال وصوله قبل ظهيرة كل يوم إثنين -وهو عائدٌ من مركز مديرية السدة من رحلة تسوقه الأسبوعي- في حافة الطريق المشرف على ساحة التعلم العشوائية التنسيق بثغر مبتسم ووجه طليق، حتى إذا ما أشرأبت أعناقنا جميعًا إليه، نادانا -بصوت معتدل بين المرتفع والمنخفض- بقوله: (طلبة .. انهض)، حتى إذا ما صرنا جميعًا في وضع الوقوف كرر نداءه الملائكي علينا: (طلبة.. انصراف)، فننصرف إلى منازلنا بل وإلى قرانا بسلام، ونحن على يقينٍ تام بعدم تعرضنا -من قبل معلمنا الفاضل (صالح هادي)- لأدنى عقوبة أو حتى لمجرد الملام.
لذلك كنا نحسب لمجيء يوم الإثنين من كل أسبوع ألف حساب، وكنا ننتظر إطلالة الوالد (يحيى حزام غراب) بمزيجٍ من اللهفة والشوق والحبِّ والإعجاب، فقد تبوأ في نفوس جميع الطلاب بذلك الموقف المتكرر وسواه من المواقف اللافتة للنظر مكانة لا يتبوأها -عادةً- إلَّا أعزُّ الأحباب، وقد كنا نرقب قدومه قبل أن يلوح لنا مرآهُ من بعيد بشغف من يرقب ظهور هلال العيد السعيد.
وما كان للعم (يحيى حزام) أن يُمنح صلاحيةَ صرفِ أيِّ طالبٍ منَّا من ساحة التعليم قبل نهاية دوامه وفي وجود معلمنا الشديد الصرامة، لولا ما كان يربط بين الرجلين من مودةٍ واحترام وانسجام وتفاهم على اتخاذ إجراءٍ تشجيعي يدخل السرور على نفوس مجتمع الطلاب وبما من شأنه الإسهام في خدمة الصالح العام وذلك ما أثبته -بالفعل- قادم الأيام.
فقد كان لمتوالية صرفنا من قبل العم (يحيى حزام) قبل دقائق معدودات من موعد انتهاء الدوام ردود فعل معنوية إيجابية جديرة بالاهتمام، إذ كانت محفزًا غير مباشر لنا على المزيد من المواظبة والالتزام.
والآن بعد مرور عشرات الأعوام ما زال معظم صبية وشباب تلك الفترة الزمنية يتذكر أكثر ما يتذكر -وبقدرٍ من المتعةِ الراسخة الأطناب- الإطلالة الملائكية للوالد الفاضل «يحيى حزام علي غراب»، وتفوهَه -ظهيرة كل إثنين بكلمة «انصراف» بشكل أسبوعيٍّ متكرر، متذكرين ما كان لتلك الكلمة في وعي عامة الطلاب من عميق الأثر.