كتابات | آراء

احتفالات اليمن بالمولد النبوي ومؤشرات البناء والتغيير

احتفالات اليمن بالمولد النبوي ومؤشرات البناء والتغيير

منذ أمد طويل وللمناسبات ذات البعد الديني حضور متميز في الوجدان الجمعي للشعب اليمني، واحتفاليات خاصة تتناسب مع طبيعة الحدث التاريخي من جهة،

وتتناغم مع طبيعة الظرف الزماني لكل مرحلة زمنية من تاريخ اليمن الإسلامي من جهة أخرى.
ومن أبرز المناسبات الدينية المترسخة في ثقافة شعب اليمن وطقوسه الاحتفالية مناسبة المولد النبوي الشريف على صاحبه وآله أفضل الصلوات، وهي مناسبة أخذت حيّزاً كبيراً من الصراع المذهبي الممول من دول ذات تأثير كبير وأدوار مشبوهة في صناعة الوعي العام تعمل على إعادة تشكيل وعي المجتمعات العربية والإسلامية وتشكيل هوياتها المتعددة بما يتناسب مع مقاصد وأهداف قوى الاستكبار العالمي، وعلى الرغم من تمكن النزعات المذهبية المشبوهة من غرس ثقافة الابتداع والتطرف في مختلف الأوساط اليمنية على امتداد العقود الماضية إلا إن مناسبة المولد النبوي الشريف ظلت محتفظة بحضورها الفاعل وزخمها الجماهيري الكبير، وهذا ليس غريباً على شعب قامت دعائم الدولة الإسلامية الأولى على أكتاف وسواعد أجداده من الأوس والخزرج في الوقت الذي تنكر فيه العرب لدعوة الإسلام منذ بواكير نشأتها الأولى على أرض قبيلة قريش.
قد يكون الحديث حول جواز الاحتفال بالمولد من عدمه من الأمور العبثية التي لا تسمن ولا تغني، فالقيم والمُثُل العليا لدى جميع شعوب العالم بمختلف ثقافاتها ومنطلقاتها الأيديولوجية من أهم المقدسات التي يبذل الجميع أرواحهم ودماءهم رخيصة في سبيل الدفاع عنها والمحافظة عليها، وليس اليمنيون بدعاً من الأمم والشعوب، فهم قوم أصحاب تاريخ وحضارة متجذرة في أعماق التاريخ، ورموزهم التاريخية لا تزال حاضرة في وجدانهم حتى اليوم.
وارتباط أهل اليمن بالنبي محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله ليس وليد اللحظة، فشواهد التاريخ تؤكد بأن أهل اليمن كانوا في انتظار اللحظة الأولى لانبثاق أنوار النبوة ومولد النبي لتعبيد الطريق أمام رسالة السماء واحتضان رسولها الكريم.
ومن الأوس والخزرج تأسست نواة مجتمع المدينة، وبجهودهم قامت دولة الإسلام، وما من معركة تاريخية ارتفعت فيها راية الإسلام خافقة على قمم الجبال وفي بطون الأودية ومنحدرات السهول إلا كان أهل اليمن قادتها وقوام جيوشها، فلرسول الله صلوات وسلامه عليه وعلى آله حضوره الفاعل والمؤثر في وجدانهم، ولأهل بيته سلام الله عليهم مكانتهم الخاصة في قلوبهم، وشواهد التاريخ أكبر من أن تحيط بها هذه الأسطر العابرة.
لقد استطاع أهل اليمن أن يحققوا حضورهم الفاعل في رحاب الحضرة النبوية بمختلف الوسائل والأساليب، فهم (الذين آووا ونصروا)، وهم الذين أخبر الله تعالى عنهم بأنهم من (يحبهم الله ويحبونه)، ويكفيهم فخراً وشرفاً أن الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله قد توَّجهم بشرف لا يضاهيه أي شرف حينما جعلهم (عنوان الحكمة ومنبع الإيمان) يوم قال: (الإيمان يمان، والحكمة يمانية).
وارتباط أهل اليمن بالنبي صلوات الله وسلامه عليه ليس مجرد مشاعر عاطفية تطغى على وجدان كل يمني مع إشراقة أيام ربيع الأول من كل عام وحسب، ولكنها تأكيد لميثاق الولاء الذي تجسدت ملامحه الأولى في بيعتي العقبة الأولى والثانية في فجر الإسلام.
ومفهوم الولاء الديني لرسول الله مرتبط بالولاء العقدي والتسليم المطلق لله تعالى، وهو مفهوم قائم على الالتزام والتسليم والخضوع والاتباع، وبشكل تترجمه سلوكيات الفرد والمجتمع حباً واتباعاً، ووعياً واقتداء، وتضحية وفداء.
لقد استطاعت الثقافات المغلوطة الممولة من مراكز دراسات قوى الاستكبار العالمي أن تفقد المناسبات التاريخية والأحداث والوقائع الإسلامية المرتبطة بشخصية رسول الله وأهل بيته الأطهار صلوات والله وسلامه عليهم أجمعين حضورها الفاعل والمؤثر في تشكيل الوعي الجمعي للأمة، وأن تطمس ملامح تلك الأحداث والمناسبات وتفقدها جوهرها وبريقها حتى لا تتحول إلى محطات تاريخية تستحضرها الأجيال بين الحين والآخر فتستلهم منها الدروس والعبر في بناء واقع الأمة وحاضر الشعوب الإسلامية ومستقبلها، وبذلك فقدت الأمة علاقتها برموزها الدينية ووقائعها التي غيّرت مجرى التاريخ في زمن لم يكن فيه للعرب أي حضور تاريخي فاعل ومؤثر في مسار الأحداث الكبرى بين أمم تلك المرحلة الزمنية الغابرة.
ومناسبة المولد النبوي الشريف واحدة من الكثير من المناسبات التي يحرص الأعداء على تغييبها وطمس ملامح حضورها المؤثر في واقع الأمة اليوم، وهذا ما تنبَّه له أهل اليمن، حيث تحولت مناسبة المولد إلى مؤتمر سنوي يتم فيه تدشين استراتيجيات التغيير والبناء بما يتوافق مع محددات هويتنا الإيمانية ومنطلقات ثقافتنا القرآنية الخالدة من جهة، ومن جهة أخرى التأسيس لوعي تاريخي حقيقي بأهمية إحياء مناسبة المولد كمحطة تاريخية للتغيير والتأسيس لأمة قوية لا تقبل الخنوع والاستكانة والركوع لغير خالقها تعالى.
لقد أصبح الصغير والكبير في اليمن يدرك أهمية حضور الرسول محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله ودوره في بناء شخصية الفرد والمجتمع وفق الضوابط التي جاءت بها رسالة الله تعالى، وأثر ذلك في تكوين وبناء شخصية الإنسان وإعداده لخوض غمار الحياة ومعتركها بروحية جهادية تتعالى على عوامل الذل والانكسار، وتتحدى المستحيل.
وما ينبغي التأكيد عليه هنا أننا إذا لم نتحرك لإخراج المناسبات الدينية ورموز تاريخنا الإسلامي من كهوف التاريخ المظلمة، فإنها ستتحول مع الزمن إلى مجرد آثار جامدة من آثار تاريخ الأسلاف المحنطة في دهاليز الزمن ومجاهل التاريخ، وهذا ما يجب أن يدركه الجميع، فالاحتفال بالمولد النبوي الشريف بمثابة بعث جديد لقائد الأمة ومعلمها الأول ليكون شاهداً على الدور التاريخي والمنجز الحضاري الذي يؤسسه أهل اليمن في أحلك مراحل التاريخ وأشدها وحشية ودموية.
لقد استطاع أهل اليمن أن يؤكدوا للعالم أجمع بأن أحفاد الأوس والخزرج حاضرون اليوم بوعيهم واعتزازهم بقائدهم العظيم ورسولهم الكريم لخوض غمار التغيير والبناء، وأن المرحلة القادمة ستشهد مولد تاريخ جديد يصنعه أهل اليمن بدمائهم ووعيهم وتفانيهم في الدفاع عن رسولهم والتصدي لعوامل التغييب ومظاهر التشويه التي يقوم بها الغرب الاستكباري وعملائهم في مختلف الأوساط العربية.
وما بين كل احتفالية وأخرى تتجلى عظمة أهل اليمن في عطائهم وجهادهم، وكأنهم يعيدون إلى الأذهان صور ذلك الاستقبال التاريخي لنبي الرحمة في المدينة المنورة (يثرب) وهم يرددون بكل فخر وحماس:
طلع البدر علينا    من ثنيات الوداع
وما بين احتفالية الأمس واليوم، تتجلى ملامح عظمة أهل اليمن بحشودها المليونية رجالاً ونساء، كباراً وصغاراً، في ظل ظرف زمني أقل ما يقال فيه وفي تلك المشاهد: (لقد برز الإسلام كله، للكفر كله).

* وكيل وزارة الثقافة لقطاع
المخطوطات ودور الكتب

أخبار الجبهات

وسيبقى نبض قلبي يمنيا
لن ترى الدنيا على أرضي وصيا