بوح اليراع: وقوف السعاة وراء ما يقاسيه المستأجر ويصلاه
ربما يكون يمن الحكمة والإيمان الاستثناء الوحيد على سائر البلدان بخلو منظومته القانونية من أي نص قانوني يضبط إيقاع العلاقة بين المؤجر والمستأجر.
ولعل الأكثر غرابة واستثنائية أن اعتياد المستأجر اليمني على حمل الأسية جعله -في الظروف الاعتيادية- أقدر على التعايش مع كل ما يتخذه المؤجر ضده من إجراءات تعسفية، فقد كان يقبل بمعالجة أية إشكالية يُقحم فيها بصورة لا إرادية بالطرق العرفية، الأمر الذي قلص فرص تداول هذا النمط من القضايا المجتمعية في أروقة الأجهزة الحكومية إلى الحد الذي جعل المشرع اليمني يتهاون عن البتِّ في سنَّ ما يضمن التعامل الحسن بين المؤجر والمستأجر في كافة ربوع اليمن من قوانين أو لوائح تنظيمية.
والحقيقة أن وضع المستأجر كان -إلى ما قبل إمطار أرجاء الوطن عام 2015 بحمم نيران المقاتلات الخليجية- شبه مستقر، ولعل سبب ذلك الاستقرار النسبي وما كان يترتب عليه من عثور أي مستأجر على منزلٍ للاستئجار بالحد الأدنى من العناء والتعب راجع -في الأغلب- إلى ما كان حاصلاً -حينذاك- من تناسب بين العرض والطلب كان يقتضي مناصفة المؤجر مستأجِرَه كلفة أتعاب السعاة التي كانت تقدر -على الأكثر- بما يساوي إيجار شهر من إيجار العقار المؤجر.
متغير ما بعد 26/3/2015
أما بعد تأريخ 26 مارس 2015 فلا أتوقع أنَّ أحدًا منا يجهل ما أحدثته موجات النزوح المتمثلة في الأفواج التي كانت ولا تزال قادمة من مختلف مناطق القتال إلى العاصمة على واقع المستأجرين بصفة عامة من أزمات ما تزال متفاقمة بصورة دائمة، فقد تسبب تدفق النازحين المتزايد إلى العاصمة صنعاء باختلالٍ كبير بين أعداد المحتاجين إلى استئجار المساكن وأعداد المساكن القابلة بل والصالحة للتأجير، فكانت صعوبة الحصول على أيِّ عقار قابل للاستئجار تحمل النازحين الوقعين تحت وطأة الاضطرار على دفع ما يشترطه عليهم الملاك -بواسطة سعاةٍ غريبي الأطوار- من مقدار ومقدم الإيجار، فأخذت أسعار المساكن -في ضوء ذلك المتغير الذي ساهم في توسع شهوة الطمع- ترتفع إلى مستويات تثير الفزع.
«مهلة الثلاثة الأشهُر» الابتداع الأشهَر
ممَّا يجدر بنا الوقوف عنده وقفة مطولة لتقصي ملابسلات هذه المسألة أن السعاة والملاك الذين أجَّروا عقارات في تلك الأثناء قد اعتبروا وما زالوا يعتبرون ضحايا النزوح -في تلك المرحلة- بمثابة الشيك المفتوح، إذ لم يكونوا يتورعون -بما أدمنته نفوسهم من أساليب استغلالية- عن تأجيرهم مساكن منقوصةَ -وربما فاقدةَ- الأهلية بمبالغ مالية خيالية، فأصبح سائر المؤجرين يعملون جاهدين على خلو عقاراتهم المؤجرة ممن يسكنها من المستأجرين الذين يسكنونها منذ سنين وربما عشرات السنين، ولم يكونوا يخفون ما يراودهم من أمل بخلو تلك العقارات أولاً بأول وبما لا يخطر على البال من الاستعجال حرصًا منهم على الفوز بالمغنم من خلال الانخراط الفعال في موسم الاستغلال الوثيق الصلة بما يعانيه المستأجرون من ضيق الحال وما يتهدد حاضر ومستقبل الأجيال من سوء المآل.
وحين كان معظم المؤجرين ما يزالون منهمكين في التفكير بحيلة تخلصهم من كابوس المستأجرين القدامى الذين كانوا ما يزالون يحولون دون تمكنهم من امتصاص أكبر كميات من دماء شريحة الضعفاء لا سيما النازحون الذين هُجِروا من مناطقهم عدوانًا وظلمًا، تفتقت أذهان السعاة «العظماء» عن حلية «إعفاء المستأجر من دفع إيجار آخر ثلاثة أشهر» التي توهم -في الظاهر- بتقديم تضحية من جانب المؤجر، بينما هي -بالنظر إلى أثرها المستقبلي المدمر- مجرد طعم استدرج -عبره- الكثير من السذج إلى الوقوع في دوامة تشرد لا يجدون لاستنقاذ أنفسهم منها أضيق مخرج، إذ غالبًا ما كان يتعرض المستأجر -بعيد انقضاء تلك الأشهر التي كانت تمر كلمح البصر- لأزمات ومخاطر لها أول وليس لها آخر.
دور السعاة في رفع سقف الإيجار
ما من شك أن ندرة توفر العقارات والمساكن منها بالذات قد جعلتها أعز من أن تنتظر توفر فرصة التأجُّر عبر ساعٍ أو متسمسر، لأن النازحين والممهلين إلى حين دائمو الانتشار بحثًا عن أي عقار يشعرهم بالاستقرار، الأمر الذي دفع السعادة -كما هو حاصل- إلى إغراء الملاك بتقديم ما لم يكونوا يتوقعونه من التنازل الذي تمثل بإعفاء المؤجر من المناصفة في دفع ما كانوا يتقاضونه من الطرفين من الكلفة التي باتت مضافة على المستأجر وبصورة مجحفة.
ولأن أتعاب الساعي -في ضوء ما انتزعه السعاة بالتحايل والمكر- تقدر بإيجار شهر، نجد الساعي -بالإضافة إلى إثقال كاهل المستأجر المضطر بدفع إجمالي أتعاب سعايته أصالةً عن نفسه ونيابةً عن المؤجر- يغالي في إيجار العقار إلى مستويات مذهلة، ليس حرصًا منه على مصلحة المالك، بل حرصًا منه على مضاعفة دخله، مستببًا بسبق الإصرار بما سيلحق بالمستأجر الواقع بين براثن الإعسار من أضرار.
فما أكثر ما يطلب ملاك رُزقوا قلوبًا رحيمة ونفوسًا زاهدة من السعاة عرض عقاراتهم للإيجار بمبالغ مالية محددة، فتأتي ردود السعادة الميتي الضمائر المتحجري الأفئدة مفعمة بأقبح صنوف المزايدة، فإذا طلب منه مالك عقار -على سبيل المثال- عرض عقاره للإيجار بمبلغ مائة ألف ريال، أبدى استعداده بتأجيره بمائتي ألف ريال.