بوح اليراع: العبثُ بالمياه اعتداءٌ سافرٌ على الحياة
بالرغم من إدراكنا -في ضوء نصوص ديننا- أن الماء أساس الحياة، وبالرغم من مسارعتنا في مواقف كثيرة -وبما يؤكد أن عبثنا بالماء ليس ناتجًا عن قصور في الوعي- بالاستشهاد على ثبوت تلك الحقيقة
بقول العزيز القوي: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) الأنبياء من الآية: (30)، وبالرغم من تأكُّدنا أن ترشيد استهلاك الماء من مسلمات ديننا، وبالرغم من حفظنا ما رواه الإمام أحمد وابن ماجة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَقَالَ: مَا هَذَا السَّرَفُ يَا سَعْدُ؟ قَالَ: أَفِي الْوُضُوءِ سَرَفٌ؟ قَالَ : نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ)، فضلاً عن علمنا أن بلدنا -وفق أدق المسوحات والتقارير الدولية- من أفقر بلدان العالم في الثروة المائية، فإن أكثرنا -مع ما نُعانيه في حياتنا اليومية من شحة المياه لا سيما مُنذُ عام 2011- يتعامل مع هذه الثروة البالغة الأهمية -كما سنوضح لاحقًا- بأساليب استهتارية وشبه انتقامية.
تعامُل جُلِّ الجماهير بمنتهى التبذير
فعلى الرغم من محدودية ما توفره المؤسسة المحليه للمياه والصرف الصحي -بمشقة وعناء- من المياه التي لا تكاد تفي بالحدِّ الأدنى من احتياجات سكان الأحياء، فإن تلك الكميات الجديرة -لقلتها- بالمزيد من الترشيد والادخار تُقابل بما لا يليق بمستهلكيها من الإهدار.
ففي الوقت الذي اضطر المؤسسةَ حرصُها على حصول كافة أحياء العاصمة صنعاء على حصَّتها من تلك الكميات المحدودة بصورة عادلة ومنصفة إلى وضع جداول مُزمَّنة لضخِّها إلى تلك الأحياء في أيام وأوقات مختلفة فلا يصل الماء إلى المستهلك -وفق العمل بخطة التوزيع المُجدول- إلاَّ بعد أيام من الانتظار الذي يُفترض أن يجعله أكثر استشعارًا للمسؤولية تجاه ما يصل بيته أو حيَّه من كمية وأحرص على الحفاظ عليها -بذات القدر- من الهدر، فإن الحاصل بشكل متكرر وشبه متواصل أن سكان معظم الأحياء يتعاملون مع تلك النعمة حال وصولها حيَّهم بتجرُّدٍ شبه تامٍّ من قِيَمِ الحياء، فصِنْفُ الموسرين منهم يعمِد إلى شفط ما أمكنه من تلك المياه بواسطة شفاطات تعمل بالطاقة الكهربائية أو بالطاقة الشمسية لملء الخزانات الحديدية أو البلاستيكية الموزعة على أسطح منازله مهدرًا -بلا مبالاته وسوء تعامله- كميات تكاد تكون مماثلة، بينما يتسابق أبناء الوسط المجتمعي الفقير على تلقُّف النزر اليسير الذي يترسب في تلافيف المواسير، فتدفعهم شدة التسابُق إلى تعبئة ما يمتلكونه من أوانٍ غير مؤهلة لخزن المياه بأسلوب عشوائي وغير لائق، فإذا بهم يشاركون مجتمع الموسرين بهذا أو بذلك القدر من الهدر بكل ما يعنيه إهدار تلك الكميات من المياه من إسهام هدَّام في الإضرار بالحياة.
ما يُلحقه الماء المُهدر في البيئة من ضرر
لعل في احتواء (وزارة المياه والبيئة) -إلى جانب لفظ(المياه)- على لفظ(البيئة) إخطارًا من المُشَرِّع اليمني للمواطن المُستفيد من خدمة المياه بواجبه في الحفاظ على البيئة المحيطة به من أضرار وتلويثات المياه المُتَسرِّبة.
بيد أن ما نُشاهد -صباح مساء- من وقائع على أرض الواقع ومن هدر للمياه التي تغرق بها الأزقَّة والشوارع يعكس تجرُّدَ المواطن المستفيد من الحدِّ الأدنى من الشعور بالمسؤولية تجاه المياه والبيئة التي يُلحِق بها -بإهداره الثروة المائية- الأضرار التالية:
1- تلويث الأرض وتوسيع رقعة المرض: فاختلاط كميَّات المياه المُتَسرِّبة ببقايا طفح مياه الصرف الصحي المُترسِّبة في الأتربة أو ببقايا أشلاء الكلاب والقطط الميتة أو بما تُبعثرُه الكلاب والقطط الضالة من أكوام القمامة من بقايا الأطعمة المتعفنة كل ذلك يلوث الأرض ويُنتج وسطًا لتكاثر الميكروبات وانتشار المرض.
2- تلطيخ جنبات الطرقات بالنجاسات: فاختلاط تلك الكميات بما اشتملت عليه الفقرة (1) من الملوثات يجعل الطرقات التي يسلكها المارَّة أثناء تنقُّلهم من حارةٍ إلى حارة مليئةً بالنجاسات ومفتقرة إلى الحدِّ الأدنى من شروط الطهارة، فإذا بالمصلي الذي مرَّ اضطرارًا في طريقٍ مُنجَّس زاهد عن دخول المسجد، وإذا بالمار الذي اجتاز أيًّا منها على سبيل الاضطرار لقضاء بعض حاجاته يدخل النجاسة مرغمًا إلى بيته.
3- تمرُّغ الأطفال في بِرك الأوحال: فامتزاج تلك المياه بأيٍّ من تلك الملوثات لا سيما إذا كانت الكميات زائدة وتكوَّن منها ما يشبه البرك الراكدة يدفع بعض الأطفال -في ظل محدودية التوعية البيئية- إلى اللعب والتمرُّغ في تلك الأوحال معرضين صحتهم -من وقتٍ إلى آخر- للخطر.
وكل ذلك وسواه من الأضرار الناجمة عن المُضي في هذا الاتجاه يُمثِّل اعتداءً سافرًا على الحياة.