ضرورة الحفاظ على وحدة الوطن
لم تكن الوحدة اليمنية حدثاً عابراً في التأريخ اليمني المعاصر، بل كانت ثورة بكل أبعاد الكلمة لما حمله ظلالها من تحولات جوهرية في شتى الأطر السياسية والاجتماعية والثقافية
ومثل ذلك عجزت عنه كل الثورات وحركات التحول الوطنية عبر التأريخ ذلك لأن الثورات وحركات التحول لم تكن ناشئة من الضرورة الوطنية الملحّة وجاءت من بؤر الصراع وأفواه البنادق ودماء الأبرياء، وميزة الوحدة اليمنية بما أوحى ظلالها من تحول حضاري وانزياح جوهري وقيم إنسانية وحريات عامة، جاءت من بين ورود المحبة وأزهار السلام ومن على طاولات الحوار الذي استمرَّ طويلاً ربما أكثر من عقدين من الزمان، وتداخل معه الدم والنار وصراع الجبهات ولم يفلح الدم والنار بل لقد أفلح كل الفلاح السلم والسلم وحده من نقل هذا الوطن إلى قيم التعدد وقبول الآخر والتداول السلمي للسلطة ونظام المؤسسات والمواطنة المتساوية والحكم المحلي واسع الصلاحيات واحترام خيارات الأمة، وضمان الحريات العامة، وغير ذلك مما لم يكن حاضراً في أذهان الساسة، ولم يكن حتى مجرد حلم في أذهان المواطنين في عموم هذا الوطن.
ولم تستطع حرب صيف 94م بما تركته من ظلال قاتمة وأثر نفسي عميق ومن تشوه و انهيار في القيم أن تثني قطار الوحدة من المضي إلى عتبات المستقبل بكل ثقة واقتدار دون أن تترك تلك الحرب أثراً ظاهراً على المشروع الحضاري الذي جاءت به بشائر الوحدة اليمنية في 22 مايو 90م ذلك لأن السلم هو القوة المثلى التي تقهر عوامل الزمن وقوى الطبيعة وهو القوة العظمى التي يقف أمامها الشرُّ خاسئاً حسيراً ولا يستطيع أن يغير في مجراها الطبيعي الذي نشأت عليه وبه شيئاً، ولو تحققت الوحدة بأفواه البنادق وأصوات الدانات وأزيز الطائرات لكانت أخفقت وانتكست في حرب صيف 94م، ذلك أنَّ القوة تخلق ما يوازيها أو يفوق عليها، والسلم تعبير عن درجة أعلى من التوازن والانسجام بين القوى وبين الإنسان وعالمه ولذلك يمكنني القول إن قوى الشرعية في حرب صيف 94م لم تنتصر وإنما انتصرت قيم السلم والنماء التي نشأت بها وعليها الوحدة اليمنية في 22مايو 90م.
أيُّ حدث عظيم بالضرورة يحدث خللاً في حركة التوازنات وحركة التوازنات بالضرورة الوجودية تحاول أن تجد لها مكاناً في خارطة الواقع الجديدة، لذلك ظلت الفترة الانتقالية الممتدة زمنياً بين (90-94) بؤرة صراع وجودي بين قوى متصارعة ضمنياً حتى تتمكن من تحقيق ذاتها ووجودها في مناخات الوحدة وتحت سمائها ذات الأفق الأبعد والأوسع والذي ضاقت به كثير من القوى حين تماهت فيه وذابت تحت درجة حرارته الجارفة ولم تستطع مقاومة طغيانه لذلك سعت جاهدة إلى إعادة صياغة مكوَّنها العام حتى يتمكن من التكيف والتفاعل مع الواقع الجديد، وقد عملت حرب صيف 94م، على تفتيت كثير من القوى وأعاد بعض تلك القوى إنتاج نفسه في قوى بديلة أو الانضمام إلى قوى قائمة في أطر مؤسسية.
إذن قوى الانتفاع هي التي خلقت واقعاً متأزماً ومناخاً غير صحي أفضى إلى دخول طرفي الفعل السياسي اليمني في حرب عبثية تركت ظلالاً قاتماً لم تزل آثاره قائمة حتى الآن وهي تهدد النسيج الوطني وتهدد الوحدة اليمنية في ذاتها وفي عمقها وفي فكرتها وفي ظلالها العام ومشروعها الحضاري الذي ميز هيئتها الندية والعامرة بالحبِّ والسلام.
في 2011م لم تكن المطالبة بسقوط النظام تستوعب الفوارق بين تونس ومصر وبين اليمن، والذين نادوا بسقوط النظام إنما كانوا يجرون على نسق تونس ومصر وفي تقديرنا أن اليمن نسيج وحدة ولا يمكن مجاراة نظم اجتماعية وسياسية في الغير وهي لا مثيل لها في سواها ذلك أن الضرورة الملحة في اليمن هي الإصلاح والتطوير لا الإسقاط الذي ردده الكثير كالبغبغاء دون أن يدرك مغزاه ومعناه في بلد كاليمن.
فقد أفضى الحديث عن إسقاط النظام في اليمن بالضرورة الى إسقاط الدولة بكل مقدراتها ورموزها ومؤسساتها بيد الدول العشر الامر الذي أفسح المجال للمشاريع الصغيرة التي في الغالب تجد نفسها في غياب الدولة كبدائل وكتعبير عن الوجود.
وقد حدثنا التأريخ في كل مفاصله الزمنية أنَّ سقوط الدولة في اليمن إنما هو تعدد البدائل ونشوء للمشاريع الصغيرة وليس أكثر من ذلك وأقرب مثال ما حدث في القرن الماضي حين سقطت الخلافة العثمانية في اليمن عام 1918م لم يستقر الحال للإمام يحيى إلا في منتصف عقد الثلاثينات إذ اصطرع وتنازع مع أكثر من كيان وحدث مثل ذلك في الجنوب إذ تبازغت تحت أجنحة الاستعمار البريطاني سبع سلطات ومثل ذلك امتداد لسياق تأريخي يبدأ من القرن الثالث الهجري، وهذا السياق الذي تبازغت فيه الإمارات والدول تشظى إلى أن شهدت صنعاء مبايعة أكثر من إمام في صنعاء وحدها.
والمثال الآخر حين سقط نظام المملكة المتوكلية اليمنية في 26 سبتمبر 1962م لم يستقر النظام الثوري الجديد إلى ما بعد المصالحة بين الجمهوريين والملكيين.
اليوم أضحى مشروع دولة الوحدة في محك التجارب , وأضحى هذا المشروع هو المعنى الذي يستعيد به اليمن قيمته الحضارية وهويته الثقافية والوطنية وبدون هذا المشروع لن يتحقق لليمن أي وجود حر ومستقر .
ولذلك لم يكن العدوان المعلن على اليمن في مارس 2015م إلا حلقة في سلسلة طويلة من التآمر والاستهداف على اليمن ووحدته بهدف وأد مشروع النهضة الذي يراه الكثير في الاقليم أنه يهدد وجودهم ويترك أثرا على اقتصادهم.
إننا مطالبون الآن أن نعيش يوماً تاريخياً عامراً بالحب والسلام ومتصالحاً مع كل التأريخ وصراعاته ومنتصراً للوطن ونموّه وازدهاره وتقدمه ومنتصراً للحكمة التي يتحدث بها كل العقلاء من أبناء جلدتنا العرب في وسائل الإعلام المختلفة.