بوح اليراع:التوعية في ميزان الوعي
عنوان المقال يشي -كما نرى- بوجود موزون وميزان، ومردُّ ذلك إلى ما بين كلا اللفظين من شديد التلازُم والاقتران، ولأن الميزان "الوعي" هو الآلة التي يُقاسُ على ضوئها الموزون "التوعية"، فهو -منهجيًّا- أجدر منها بالدراسة وأقدم منها بالتعريف وأحقُّ منها بالتقديم في معرض التخصيص والتعميم.
الوعي من أكثر الألفاظ شيوعًا في قاموسنا اللغوي اليومي، ومن أكثر الكلمات تداولاً واستخدامًا في حياتنا العملية وفي مناقشاتنا الخاصة والعامَّة، بيد أننا فهمنا هذا اللفظ الجدير بالحفظ وما زلنا نفهمه -خطأً- على أنَّهُ إصغاء الأضعف لأطروحات الأقوى، والتسليم بمُجمل آرائه، وتبنِّي فكرةِ الدفاع عنها دون إخضاعها لأبسط صور المناقشة والتحليل، أو على أنَّهُ إنصاتُ الأدنى لما يرتجله أو يهرف به الأعلى من خطاب بصرف النظر عن موافقته أو مجانبته للصواب،فانعكس ذلك -بدوره- سِلبًا على مفهومنا للتوعية، إذْ غَدَتْ تعني -وفق هذا المفهوم المغلوط للوعي- استلهام القوي مُختلف مواهبه وملكاته الإبداعية واستعانته بكافَّة قدراته وإمكاناته الماديَّة بُغيةَ تعميم أفكاره -صائبة كانت أم خاطئة- على من هم دونه مُحبِّذًا لو تقبَّلوها منهُ جزافًا دون أن يُفكروا بإخضاعها لأيٍّ من معايير الرفض والقبول.
ولو أننا فهمنا "الوعي" على أنه المعرفة المبنية على الفهم الجيد والعميق المُفضي بصاحبه إلى القناعة من أقرب طريق، لتحرَّر -بالتالي- فهمنا لـ"التوعية" ممَّا شابه أو علِقَ به من الأخطاء، فلا نفتأ نفهم أنَّها عمليَّة تربوية تعليمية توعوية عامَّة، هدفها الرفع من مستوى فهم ووعي وإدراك القاعدة المُجتمعية العريضة وصقل مواهبها وتوسيع مداركها، ووسيلتها النُّخبة المُجتمعية المُستنيرة المُتخِذَّة من العلم والمعرفة سلاحًا ومن لين الجانب والبراعة في سرد الوقائع والتجارُب سبيلاً ومنهاجا، والمُعتمدة على المنطق المُقنع حُجَّةً وبُرهانا، والجاعلة المصلحة العامَّة وخدمة الإنسان والاجتهاد في تحقيق أحلامه والتخفيف من آلامه غايةً قُصْوى وهدفًا ساميا، باعتبار الإنسان -في كلِّ زمانٍ ومكان- وسيلة التوعية وغايتها، وبهِ تُناط مسؤولية تنميتها ورعايتها.
ولأن الإنسان هو المستهدف من التوعية -بدايةً ونهاية- باعتبارها أنجح وسائل الهداية، ولأن حقول العلم والمعرفة في تكاثُر مستمِر ولا تنفكُّ تتسع على الدوام، ولأن مراحل تطوُّرها تتسارَعُ عامًا بعد عام، ولأن جنس الإنسان بمختلف فئاته العاملة منها والخاملة محتاجٌ -ولو بنسَبٍ متفاوته- إلى مواكبة مسيرة الثورة العلمية الشاملة، فإن حاجته إلى "التوعية" ليست مقصورةً -كما هو سائد في واقعنا العربي- على التعبئة السياسية التي تُحشى بها العقول أو تُوغَر بها الصدور لأغراض فئوية أضرارها -في الغالب- أكثر من فوائدها وخسائرها -في الواقع- أضعاف عوائدها، بل إن حاجتنا الماسة إلى "التوعية" عامَّة عمومية الثورة العلمية وشاملة شموليتها مختلف مناحي حياتنا، فإذا كان الفرد محتاجًا -لاستقامة شؤون حياته وضمان طمأنينته بعد مماته- إلى "دينار" أو "بِضع "دنانير" من "التوعية السياسية"، فإنه في الوقت ذاته -لما من شأنه استقامة أمر ليلته ويومه واستتباب وضع صحوهِ ونومه- بأمسِّ الحاجة إلى القناطير المقنطرة من "التوعية الثقافية و"التوعية الاقتصادية" و"التوعية الزراعية" و"التوعية الصناعية" و"التوعية المعلوماتية التقنية" و... و... وما لا يمكن حصره من الأمور الأكثر أهميَّة في حياة الأفراد والمجتمعات والأعظم مقاومةً لنوازع الشرِّ وعوامل الفرقة والتشظِّي والشتات.
وإذا كنتُ قد اختصصتُ "التوعية الثقافية" -دون غيرها من ألوان التوعيات- بموضع الصدارة، فلأنَّها -برأيي- أسٌّ متين لكافَّة صنوف التوعية، لأن الثقافة تُعرَف وتُعرَّف بأنها "الأخذ من كل علمٍ بطرف"، وإذا سلمنا بذلك توجَّب علينا التسليم بأنَّ المثقف "الواعي" أقدر الناس على تدبير أمور دنياه وأبصرهم في إصلاح شؤون أخراه، فهو أقدر الكوادر على المشاركة في تشييد صرحٍ دنيوي، وهو أجدر العناصر بالتأسيس لمجتمعٍ إنسانيٍّ قوي، وما أجدرنا بالتسليم بأن "التوعية" هي الهدي إلى الطريق القويم وإلى الصراط السوي، وما دونها من جُمودٍ وانغلاق هو الإضلال المُهلك للحرث والنسل.
فهل من مُرعوي؟