الساحل الغربي ملتقى الأطماع الاستعمارية « الحلقة 49 »
كان افتتاح قناة السويس مدعى للتهافت الاستعماري الدولي على البحر الأحمر
كانت الحملة الفرنسية على مصر أول خطوة تقوم بها الدول الاستعمارية الأوربية في التعرض لمنطقة البحر الأحمر منذ وصول العثمانيين إليه ,
بالإضافة إلى أنها اتاحت الفرصة المناسبة لبريطانيا لتجد مبرراً لها في قاعدة تتحكم بها في مدخل البحر الأحمر الجنوبي وقريبة من باب المندب وكانت تلك هي عدن ثم جاءت قناة السويس, وأصبحت منطقة البحر الأحمر منطقة استقطاب للنفوذ الأجنبي وفتحت شهية الدول الاستعمارية لإيجاد موطئ قدم على حوض البحر الأحمر بضفتيه الشرقية والغربية والإفريقية والعربية .
يقول الدكتور جلال يحيى بأنه وفي حلول العقد الثامن من النصف الثاني من القرن التاسع عشر كانت خارطة البحر الأحمر السياسية تشير إلى احتلال بريطاني في عدن على ساحله الشرقي , وتغلغل فرنسي في ( أوبوك ) وآخر إيطالي في عصب , ولقد لاحظنا كيف أن بريطانيا كانت تخشى تزايد النفوذ الفرنسي في المنطقة , وكان هو نفس الموقف الذي اتخذته بريطانيا تجاه نشاط إيطاليا في منطقة البحر الأحمر حول ميناء عصب في بادئ الأمر.. إلى أنها ما لبثت أن غيرت من موقفها هذا لضمان تحجيم التوسع الفرنسي في المنطقة بالإضافة إلى إسكات صوت هذه الدولة إزاء السياسات البريطانية المختلفة وخاصة ً احتلال بريطانيا لمصر.
يقول الدكتور علي بركات في كتابه السياسة البريطانية في جنوب البحر الأحمر والدكتور" سنمار " والأستاذ رجب حراز "التوسع الإيطالي في شرق أفريقيا" كلهم أجمعوا بأن التهافت الاستعماري على مصر والبحر الأحمر بعد افتتاح القناة قد زاد وبلور الأطماع في هذا المجرى الحيوي الهام وبدل أن يكون نعمة لدوله فكان مصدر أتعاب ومشاكل لأهله ومن المعروف أن تدخل الدول الأوربية , وخاصةً بريطانيا وفرنسا في شؤون مصر قد تزايد بوضوح أثناء العقد الثامن من القرن التاسع عشر , وقد نتج عنه نوع من الوصاية الدولية على مصر .. وقد أدى هذا التدخل في نهاية الأمر إلى عزل الخديوي إسماعيل , ووضع توفيق خلفاً له , حيث لم يحز قبول الرأي العام المصري بصفة عامة , ورجال الجيش المصري بصفة خاصة مما أدى إلى قيام ثورة عرابي, والتي ترتب عليها احتلال مصر الكنانة من قبل بريطانيا في عام 1881م وفرنسا أحتلت تونس والذي اعتبرته بريطانيا إخلال بالتوازن وبهذه الحجج احتلت بريطانيا مصر بحجة ثورة عرابي واحتلال فرنسا لتونس الذي اعتبرته بريطانيا إخلال بالتوازن الأوربي في البحر الابيض المتوسط ومنح فرنسا نفوذاً متفوقاً على النفوذ البريطاني وأن هذا التوازن لن يعود إلى حالته الطبيعية إلا باحتلال البريطانيين لمصر وكانت بريطانيا على يقين بأن الدول الأوربية الكبرى لن تعارضها في احتلال مصر معارضة كبيرة.. فيما عدا فرنسا التي لم تكن تنظر بعين الرضا إلى نمو النفوذ البريطاني في وادي النيل وإلى امتداده إلى منطقة البحر الأحمر .
في عام 1882م قتل بعض الصوماليين أحد الرعايا الفرنسيين وكانت هذه الحادثة فرصة لتدعيم النفوذ الفرنسي في أوبوك فتم اختيار المستعمر الفرنسي لا جارد للذهاب إلى أوبوك للتفاوض مع المسؤولين هناك على عقد اتفاقية لتحديد الحدود إلا أن إنجلترا كانت عازمة على أن لا تترك فرنسامطلقة اليد للعمل على مضايقتها في هذه المنطقة , وهكذا استمر التنافس المحموم بين البريطانيين والفرنسيين في المنطقة واضحاً جلياً اعتبارا من شهر مارس 1884م عندما قام الميجر هينز ممثلاً لشركة الهند الشرقية البريطانية بزيارة زيلع وبربرة وهرر , وتوصل إلى عقد معاهدة في 14يوليو 1884م مع قبيلة حبر أول , تعهد شيوخ هذه القبيلة بموجب هذه الاتفاقية بعدم التنازل عن أية قطعة من أراضيهم لأية دولة أخرى عدا بريطانيا وكذلك السماح للسفن البريطانية بالتجارة في الموانئ التابعة لهم كافة وتعهدوا بحماية الرعايا البريطانيين في بربرة وفي أي مكان آخر من أراضي حبرأول كما نصت المعاهدة أيضاً على أنها ستكون سارية المفعول في الوقت الذي تغادر فيه القوات المصرية بربره.
البريطانيون يواصلون تنفيذ سياستهم الاستعمارية المرسومة , فأرسلوا إنذاراً إلى الباب العالي بخصوص المحافظة على النظام في خليج عدن فقد أبرق اللورد جرنفيلد إلى اللورد دافرين في الآستانة بأنه إذا لم تكن الحكومة التركية مستعدة لا تخاذ الخطوات السريعة لاحتلال زيلع طبقاً لاقتراحات الحكومة البريطانية فسيكون من الضروري لحكومة صاحب الجلالة أن ترسل قوة للمحافظة على النظام هناك . وفي نفس الوقت فقد صدرت الأوامر إلى هنتر لعمل الاستعدادات اللازمة لتقوية حامية زيلع بقوات من عدن على أن لا يتأخر عن احتلال هذا الموقع إذا دعت الضرورة , وحتى بدون الرجوع إلى حكومة لندن وفي أغسطس 1884م صدرت الأوامر إلى هنتر بإجلاء القوات المصرية عن بربرة , وتم في 5 أكتوبر من نفس العام .
وفي خضم هذه المنافسة الاستعمارية استطاع المستعمر الفرنسي لايجارد الذي كانت قد بعثت به الحكومة الفرنسية عقد اتفاقية مع الحكومة المصرية بشأن تعيين الحدود , وكما أستطاع عقد معاهدة مع سلطان تاجورة في 21سبتمبر 1884م وبمقتضى هذه المعاهدة تنازل سلطان تاجورة عن المنطقة من رأس علي إلى قبة الخراب , وفي 18 أكتوبر سنة 1884م تنازل السلطان أيضاً عن رأس سجالو وقبة الخراب , ثم ما لبث أن الحقها في 14ديسمبر من نفس العام بأرض اخرى وكانت إنجلترا تعلم جيداً أنها لا نستطيع إبعاد فرنسا عن بلاد الصومال وخليج عدن إلا بالقوة خصوصاً هذه الفترة التي تتكالب فيها الدول الاستعمارية على القارة الإفريقية ,ولن يكون إبعاد فرنسا سهلاً حتى في حالة نجاحها في ذلك على حساب مضايقات أخرى تقوم بها فرنسا ضد إنجلترا في مصرنفسها لذلك فأن وزارة الخارجية البريطانية قد قبلت مبدأ ملكية فرنسا لأوبوك, ولكنها أرادت أن توقف التوسع الفرنسي في هذه المنطقة الاستراتيجية الهامة فنجدها تقترح على فرنسا عدم إثارة المشاكل في وجهها بالنسبة لملكيتها لأراضي أوبوك وذلك نظير قبول فرنسا إبلاغ إنجلترا عن الحدود المضبوطة لهذه الأراضي ,ولم تكن الحكومة الفرنسية من السذاجة بأن ترد على مثل هذا الاقتراح في الوقت الذي أخذت فيه إنجلترا تستعد للاستيلاء على الأراضي المصرية في افريقيا , وكان وجود لاجارد نفسه في أوبوك يدل على أن الحكومة الفرنسية قد صممت على العمل بنشاط على توسيع حدود أرضي أوبوك .
نواصل في العدد القادم بإذن المولى سبحانه وتعالى.