بوح اليراع:في رحيل الوجه الباسم (العميد محمد غانم)
ما زلت أتذكر يوم انتقالي -في منتصف 1995م- من وحدتي السابقة "اللواء الثامن صاعقة" برتبة ملازم إلى "دائرة التوجيه المعنوي"
أن من بين الزملاء الذين سعدت بالعمل معهم الأخ الملازم "محمد أحمد غانم" الذي قابلني منذ الوهلة الأولى لقدومي ببشاشةٍ ووجه باسم، وقد كانت تلك البشاشة التي لم تكن تفارق محياه، بالإضافة إلى تقارب السلوك وتشابه الطباع لدى كلينا وراء ما نشأ بيننا -على مدى ثلاثة أعوام من عملنا المشترك في "مجلة الجيش" و"شعبة الصحافة"- من أخوةٍ وألفة.
وبالرغم ممَّا اقتضته مصلحة وطبيعة العمل واختلاف الميولات لكل منَّا من تنقل أسفر عن استقرار كل واحد في شعبة لا تناسب ميولات الآخر، فقد ظللنا على اتصال أخويٍّ حميمي شبه يومي، ولم يكن أحدنا -لقرابة ثلاثة عقود- يبخل على الآخر بنصيحة الناصح اللبيب وبالدعاء له بظهر الغيب، إذ لم يكن يمر علينا شروقٌ أو مغيب ليس لأحدنا من دعاء أخيه نصيب.
وبصفة عامة فقد كان الراحل -بالنظر إلى كونه موظفًا في واحدة من أهم مؤسسات الإعلام- قدوة حسنة في حسن المظهر والهندام، كما كان يُضرب به المثل في النشاط والالتزام والمواظبة على الدوام وفي الدقة والسرعة في تنفيذ ما يسند إليه من مهام، فضلاً عن أنه كان -لما عُرف عنه من إشاعة روح التعاون في أوساط زملاء العمل- الزميل الذي لا يُمل.
جهدٌ متواصل في مواقع التواصل
يبدو أن الراحل مجبولٌ بفطرته على التفاني في القيام بواجباته المجتمعية وفق الأعراف المرعية، إذ لم يكن يفوته حضور أية مناسبة اجتماعية لأيٍّ من الأهل أو الزملاء أو الأصدقاء، مع الأخذ في الحسبان أنه كان أكثر تفانيًا في أداء واجب العزاء، إدراكًا منه أن المفجوع بأيٍّ من أهله أو ذوي قُرباه يكون بأمس الحاجة إلى التسرية عنه بأصدق عبارات المواساة التي من شأنها تصبيره على بلواه.
وفي ضوء تجذر القيم الدينية والمجتمعية في وعي الراحل تجذُّرًا قويًّا، فقد اتخذ من مواقع التواصل الاجتماعي منبرًا تربويًّا ودعويًّا، وفي سبيل إجلاء الغموض عن هذا المعنى أشير إلى مثالية الراحل في الاستفادة القصوى من تلك الوسائل بما يلي:
1 - توظيف "واتس اب": منذ إنشائه -يرحمه الله ويجعل مثواه الفردوس الأعلى من الجنة- مجموعة (طريق الجنة) التي ضمت -على مدى عقد زمني- مئات الأعضاء اضطلع -من خلال المنشورات التوعوية الهادفة- بدور تنويريًّ ودعويٍّ رفع مستوى وعي مئات الأعضاء بعظمة الخالق -جلَّ وعلا- وبكثرة نعمه المبسوطة وصحح ما كان لديهم من مفاهيم مغلوطة، متسببًا -ربما في زمن قياسي- برجوع الكثير من جيل الشباب المُسرف على نفسه باقتراف المعاصي إلى الصراط السوي.
وحرصًا منه على تحقيق فائدة مجتمعية متزايدة، فقد أستغل علاقته الطيبة ببعض الثقات من العلماء الأجلاء وجعل المجموعة -من ناحية أخرى- منبرًا للإفتاء، فكان يستقبل فتاوى الأعضاء، ثم يرسلها إلى أولئك العلماء، ومتى تفضلوا -بدورهم- بإرسال الردود الشافية عليها نشرها في المجموعة حتى تعم الفائدة كافَّة الأعضاء، فأسهم -بذلك الجهد الطيب- بحل الكثير من المشكلات الاجتماعية التي كانت أقرب إلى الاستعصاء.
2 - توظيف "فيس بوك)": أما موقع "فيس بوك" الذي هو -بطبيعة الحال- أكثر انفتاحًا من تطبيق "واتس أب" على الفضاء، إذ يتمكن العضو من إيصال منشوره -إلى آلاف الأصدقاء وربما إلى أصدقاء الأصدقاء، فقد وظفه الراحل الذي كانت طبيعة عمله تقتضي اتصاله بالشبكة العنكبوتية بشكل شبه متواصل في نشر الأخبار المتعلقة بأيٍّ من الأصدقاء وكذا نشر الأخبار ذات الطابع المجتمعي العام أولاً بأول وبما يضمن وصولها لكل متتبع وراغب في الوقت المناسب.
تشاركنا في مهمة كانت لنا نعمة
ومنذ سنوات خلت جمعتني به وبزملاء آخرين مهمة تخصصية استغرق تنفيذها ثمانية أيام بلياليها، كان يتخلل برنامج عمل تنفيذ تلك المهمة أوقات فراغ أبت همته العالية وسلوكياته المثالية أن تضاع، فما كان منه إلاّ أن دعا بعض الزملاء الذين أمَّل فيهم التجاوب لما فيه فائدتهم -وكنت في مقدمتهم- إلى استثمار ذلك الوقت الفائض عن برنامج تنفيذ المهمة وعن أوقات أداء الفرائض في قراءة أورادٍ قرآنية وفق برنامجٍ زمنيٍّ شامل يمكننا من التغلب على ما قد يعترينا من تهاون أو تكاسل، فلم تنتهِ مدة تنفيذ مهمتنا إلاّ وقد تلا كل منا -بفضل الله ثم بفضل روح التنافس التي أشاعها بيننا الحبيب الراحل- المصحف بالكامل.
فإذا بكآبة أجواء تنفيذ المهمة -نتيجة ما بذرته شدة حرصه علينا في نفوسنا من علو الهمة- قد غدت أعظم نعمة، وأية نعمة أعظم من الارتباط اليومي المتعدد بكتاب الله جل في علاه، بكل ما يترتب على تزود الروح من مائدة القران الكريم -بالإضافة إلى الأجر الأخروي العظيم والخير الدنيوي العميم- من طمأنينة النفس وسلامة القلب المفضية بأولياء الله الذين (لَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ) يونس من الآية: (62) إلى جنات النعيم (يَوۡمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنۡ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلۡبٍ سَلِيم) الشعراء الآيتان: (88 و 89)؟!