كتابات | آراء

الحريات والتدافع في الإسلام وفقه التمدن.. قراءة تأملية

الحريات والتدافع في الإسلام وفقه التمدن.. قراءة تأملية

يبدو الواقع الإسلامي اليوم ضبابيا ومتوحشا وغابيا بعد أن عملت فيه الجماعات التابعة للجهات الاستخبارية العالمية على تفكيكه وتشويه صورته المثالية في الأذهان.

فالجماعات التي تدعي الانتماء إلى الإسلام وتعمل باسمه وتحت رايته هي من يفت في عضده, وهي من تعمل على تقويضه من خلال أخلاق التوحش والغابية والفوضى التي ساد منطقها وتداولها الاعلام منذ مطلع العقد الثاني من الألفية, تلك الصورة التي تسيطر بقتامة مشهديتها على العقول اليوم هل تمثل الجوهر الحقيقي للإسلام؟
نحن نرى أن فقه التمدن في الإسلام, وفكرة الحريات العقائدية, وفكرة التدافع بين الجماعات سياقات ذات تجذر وعمق في الفكر الثوري الإسلامي الذي قاد مرحلة انتقال من أصعب المراحل ليبدع واقعا اجتماعيا وثقافيا جديدا في عهد الرسول الأكرم عليه وعلى آله الصلاة والسلام ويوم السقيفة كان سببا مباشرا في كل التنظيرات والتخريجات الشرعية لنظرية الحكم التي تستند اليها الجماعات التي تشوه في الاسلام وجل تلك المدخلات الثقافية لا أصل لها في جوهر الإسلام بل فرضتها ضرورة العصبيات وروح الاستبداد في الذات القروية, تلك الروح التي تستند الى مبرر فساد الخروج واستقرار الدولة هي التي عززت هذه الروح إلى درجة الاعتقاد بجوهريتها في الدين وأصوله وثوابته ومنطلقاته النظرية, فالتاريخ يتحدث عن خروج الناس في زمن الإمام علي كرم الله وجهه ولم يسعه إلا مناجزتهم بالسيف سواء في وقعة الجمل أو صفين والأمويين تعاملوا مع أسباط الرسول عليه الصلاة السلام بتوحش إلى درجة أن تركوا يحي أبن زيد مصلوبا حتى دفنه أبو العباس السفاح وفق ما تقوله- بعض مصادر التاريخ- دون مراعاة لقربة او حرمة.
والعباسيون طبعا نبشوا القبور وأحرقوا الرمم وقتلوا وشردوا بني أمية ولم يراعوا فيهم إلا ولا ذمة ثارا وحقدا ولم تمنع العباسيين قرابة النسب أن يعملوا سيف السلطة في الطالبيين فقد قتلوا النفس الزكية وابناءه وأخوته بمبرر الخروج عليهم, هذا التراكم ترك في حياتنا الثقافية خللاً بنوياً لابد من تصحيح مساره حتى نتمكن من الخروج من دورات العنف والثأر والتوحش.
فالسيرة النبوية تحمل رموزا كان التفاعل معها تفاعلا جامدا غير متحرك في فضائها الإيحائي الذي تحمله, فرحلة الإسراء لم تكن إلا حالة تكامل في خط متواز بين رمزية المكان (مكة/والقدس) وتلك الرحلة في خطها المتوازي بين رمزية المكانين تشكل قاعدة الهرم, والهرم يكتمل بالمعراج والعودة إلى مكة فرأس الهرم يوحي بواحدية المصدر والقاعدة في طرفيها اللذين يشيران إلى المكانين (مكة/ والقدس) يوحيان إلى اختلاف الشرعة والمنهج وهو المعنى نفسه الذي تؤكده سورة المائدة حيث يقول تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}المائدة48.
كما أن الهجرة كانت تشكل حالة انتقال من عصبية القرية الى روح التعايش المدني الذي شكلته يثرب بتعددها الثقافي وبقيم التعايش الذي أسسته صحيفة المدينة وهي وثيقة تنظم العلاقة بين أطياف المجتمع في المدينة من مهاجرين وأنصار وعرب مشركين ويهود وهذه الوثيقة تمثل أول دستور لتأسيس الدولة الاسلامية الجديدة.
معنى ذلك أن الإسلام مدني بطبعه وجوهره التعايش والسلم والتسامح والسقيفة شكلت نقطة الانحراف في مدنية الإسلام بالعودة إلى العصبية القروية وهذه العصبية قادت وأسست كل تشوهات التاريخ الاسلامي بكل مستوياته.
كان الاصل في استمرار مدنية الاسلام تمكين الأنصار لكن عصبية قريش أقصتهم واغتالت سعد ابن عبادة وأعادت المشروع الى دائرة العصبيات وبالعودة إلى الشاهد الذي سلف ذكره من سورة المائدة نجد المعنى بكل ظلاله لا يحتمل تأويلا وليس به مظان اللبس والغموض فمسار الحياة قائم على التعدد والمعيارية فيه هي الخيرية للبشرية والنفعية العامة وهذا هدف رباني من هذا التعدد ولو لم يكن هدفا ربانيا جوهريا لكان جعل الناس في مستوى واحد لم يتجاوزوه "ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة", فالقضية تتجاوز ما تذهب الجماعات التي حصرت نفسها في المفاهيم الضيقة, وترى في نفسها النقاء المطلق وهي لم تبلغه, لذلك فالدعوة إلى الله تعتمد الموعظة الحسنة, والجدال "وجادلهم بالتي هي أحسن" والقرآن في هذا الاتجاه واضح في نصوصه وهي قطعية الدلالة,فقد حصر الأمر في البلاغ: يقول تعالى: {مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}المائدة99.
وجعل للقوة قيودا وشروطا فاستخدامها مشروط ومحدد وللفكر الاسلامي صولات وجولات في ذلك, فالبلدان التي تم فتحها عنوة لم تفتح عنوة بل بسبب رفضها لفكرة البلاغ أي فكرة التعدد والتدافع والنفع العام بدليل أن الفاتحين لم يفرضوا معتقدهم على أهل الديار المفتوحة بل تركوا لهم حرية المعتقد وممارسة الشعائر والطقوس الخاصة بهم وأمام مثل الأفق المتسع الذي يؤثر عن السلف إلا أن المتلقي المعاصر للرواية التاريخية ما يزال يتعامل معها كنص ثابت غير متحرك في فضاء الفكرة والمعنى حتى يتجدد في ذاته وفي معناه ويتفاعل مع المستويات الحضارية الحديثة, بل جعله مقيدا في العبارات وأراد أن يجعل منه بعدا نظريا يبرر له السبي وبيع الإماء في زمننا المعاصر والأدهى والأمر فالبيع والشراء لا يتم إلا بالعملة القديمة الدرهم والدينار كما تدل الكثير من الشواهد عن الحركات الجهادية والمبثوثة في وسائط الإعلام المتعددة.
فالتدافع في الاسلام هدفه الجوهري العدل ومنع الاستغلال فأبعاده النظرية اقتصادية واجتماعية وثقافية وليس هدفه الاستغلال والظلم والاضطهاد والطغيان أو تسلط جماعة على أخرى بدليل قوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}الحج40.
فالصوامع والبيع والصلوات والمساجد اشارات واضحة الى التعدد الثقافي فالاختلاف بسبب المعتقد هنا وسبب الخروج كان بسبب المعتقد الذي لا ينسجم مع الجماعة المتحكمة بمجرى الامور فالصورة واضحة ومقاصد الله أكثر وضوحا وإن كان المفسرون خاضوا جدلا حول مفهوم التدافع الا أن معناه يضيق ويتسع في أقوالهم لكنه يصب في جوهره الى حالة تفاعلية تتغيا توازن قوى المجتمع وسلامة عيشه وشيوع العدالة التي يسميها الفكر الاشتراكي بالعدالة الاجتماعية.
ويقول في سورة أخرى: {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}البقرة251.
فالتدافع هنا كما تشير الآية لا يعني التناحر والتكالب والافناء بل يعني التراحم والحركة والتموج ففي القاموس تدافع القوم بمعنى دفع بعضهم بعضا, فالتدافع بالحسنى وبلوغ الحجج بالمنطق وبيان فساد الانحراف والرجوع الى المعايير الاخلاقية والقيمية لبيان الصورة واعتدالها بعد اعوجاجها فضل من الله كبير خوف الجمود والفساد أن يشيع في الارض وتلك قضايا جوهرية في مقاصد الله على غير وفاق مع فكر العصبيات العشائرية أو القروية الذي شاع عبر العصور في فكرنا وكان سببا مباشرا في حالة الجمود في مستوى التفاعل الحضاري والتنافس على القيم الابتكارية والابداعية التي تفيد التعايش والسلام وتعيد ترتيب النسق الحضاري البديع في حياة المجتمعات البشرية.
لقد أصبحنا أمام واقع حضاري جديد, ودلت التفاعلات أن الفكر الاسلامي بحاجة الى حركة تدافع لتحديد المفاهيم الحضارية الجديدة والمستجدة عليه ليكون أكثر ديناميكية مع واقعه, فالتمدن ما يزال يأخذ بعدا نظريا جامدا في تصورات البعض, والتدافع ما يزال يأخذ بعدا نظريا متوحشا عند الكثير, والحريات تأخذ بعدا نظريا الغائيا الى حد الفناء عند البعض, والوقوف أمام هذه المصطلحات لتحديد مفاهيمها هو البداية الصحيحة للولوج الى العصر للتأثير فيه لا التأثر به.

أخبار الجبهات

وسيبقى نبض قلبي يمنيا
لن ترى الدنيا على أرضي وصيا