توحيد الطاقات في زمن الصراعات
يقال أن إدارة الصراعات من أصعب المهام على وجه العموم فصغائر الأخطاء فيها قد تصبح من العظائم وقد تترك أثرا نفسيا واجتماعيا وثقافيا مدمرا
ولذلك فأن الذين يديرون مثل ذلك الصراع لابد أن يكونوا استثنائيين ومتميزين وحالة التميز والتفرد ليست حالة اعتباطية ولكنها تتطلب جهدا عضليا مضاعفا ونشاطا ذهنيا متوقدا وقرارا حاسما متى كانت الضرورة قد فرضته في واقعها الاجتماعي.
ويبدو أن اليمن يعيش وضعا لا يحسد عليه فالأطراف السياسية التي كان يفترض بها أن تكون عونا له أصبحت عبئا على المرحلة والاستقرار وعلى عملية الانتقال في حد ذاتها فالصراع على الأرض ونتائجه كاد أن ينحرف بمسار التسوية السياسية والاستغراق في الحالات الانفعالية قد يفضي إلى المزالق الخطرة والمدمرة والذين وقعوا تحت حالة (عمه الطغيان) لم يفكروا بالعودة إلى حالة الاستقرار النفسي وتغليب العقل والحكمة والمصلحة الوطنية العليا فالثأر السياسي الذي تمارسه بعض الأطراف السياسية لم يخرج من دائرة الطغيان ودائرة العنف إلى دائرة العقلنة التي يجب أن تكون سمة غالبة في المراحل التي يهددها الانهيار واختلال القانون العام والطبيعي.
فاليمن تمر بمرحلة هي من أخطر المراحل في تاريخها القديم والحديث فالدولة مهددة بالتشظي والانقسام, ويقظة الهويات المحلية والوطنية والقومية التاريخية تبرز بشكل جلي وواضح على سطح المشهد السياسي والثقافي وبدأت بعض الجماعات تعيد ترتيب نفسها خوف عوامل الفناء وخوف مفردات القوة والاستهداف أن تصيبها, وفي مقابل ذلك لا نجد نشاطا حكوميا يعمل على ترميم المتصدع في الوجدان الجمعي, فالأداء الحكومي في التفاعلات اليومية وفي النشاط العام كاد أن يكون عدما وباعثا على العدم وعلى الشعور به والممارسات الخاطئة للكثير تبعث كوامن الغضب الشعبي وتعزز من الشعور بفقدان القيمة ويبدو أن الأداء الإعلامي والنشاط الثقافي قد ساهم في حالة النكوص بالقدر الأوفر إذ ظل دورهما مفقودا ودورهما من أساسيات الحالة السياسية في كل مؤسسات الحكم في العالم , ولذلك نرى العالم من حولنا يولي الشريحة الإعلامية والثقافية الاهتمام الأكبر فهو يقترب منها ويبدد السحب التي تحجب الرؤية عنها ويحاورها أملا في تصحيح التصورات المسبقة لكل طرف عن الآخر , ويعمل جاهدا على توفير متطلبات الاستقرار النفسي والاجتماعي والاقتصادي حتى ينعكس ذلك الاستقرار على الحالة الأمنية والاجتماعية والسياسية , وبالتالي على التنمية الوطنية المستدامة, وفي المقابل فإن التقليل من شأن وقيمة الشريحة الثقافية والإعلامية ومحاولة اقصائهما من تفاصيل المشهد لن يكون بالضرورة إجراء واعيا , فالتبعيد لقادة الرأي وصناعه ضرر نتائجه كارثية على الوطن وعلى أمنه واستقراره , وحديثي هنا عن المثقف وفق مفهومه الشامل بما في ذلك المثقف الديني – فالتعدد في الرؤية والمنطلق أصبح واقعا لا يمكن القفز على حقائقه الموضوعية , والتعامل مع مثل ذلك التعدد لن يتحقق إلا بالاعتراف بوجوده بالتوافق على قيم ومبادئ الالتقاء , ومن خلال ترشيد الخطاب وتشذيبه من نوازعه الذاتية فالآخر المختلف معك موجود ووجوده يضاهي وجودك وموقفه من القضايا العامة يجب أن يحترم , ويتم تقبله مثلما تريد منه أن يحترم موقفك ويتقبله , وعند هذه النقطة المحورية تبرز المهارات السياسية التي تستخدم الممكنات الذهنية والثقافية والسياسية في تحقيق المكاسب السياسية لهذه الجماعة أو الحزب , فالعداوات لن تخلق إلا عدوات مثلها والدم لا يجر وراءه إلا دما مثله , والاشتغال على قيم السلام يتطلب مهارات ذهنية وثقافية وقواعد منطق سليم , لذلك فالفرق التي تشتغل على حالات الانقسام الاجتماعي وتحاول تعميق ثقافة الثأر والعداوات على أسس مذهبية وطائفية تشكل خطرا على مستقبل اليمن , ويصبح تدخل الدولة بكل إمكانياتها المادية والمعنوية في هذه الحالة ضرورة ملحة على أسس التعدد وقبول الآخر والتعايش والسلام وتهذيب الخطاب , كما أن المؤسسة الإعلامية الرسمية والمؤسسة الثقافية بالتوازي مطالبتان بالقيام بدورهما من حيث إشباع حاجات الفرد وتكثيف تجاربه , فالوعاء الذي يشكو الفراغ هو يشتهي الامتلاء وحين يملأ بقيم الخير والحب والسلام والحق تكون ثمرته اليمن السعيد , الذي يستعيد بعده الحضاري ومجده التاريخي وحين نتركه لفراغه , فرغبة الامتلاء تجعله يبحث عن كينونته , ونحن نشهد أنه لا يجدها إلا في العبوات المتفجرة والأحزمة الناسفة وفي العمالات والارتهان الغير , لذلك فالتركيز على بناء الإنسان بناء سليما يجب أن يكون من أولويات المرحلة , وتفعيل دور الأدوات في البناء الإنساني يجب أن يأخذ حظه من الاهتمام والتركيز والعناية وإذا كنا نردد في خطاباتنا أن الإنسان هو هدف التنمية ومحورها فمثل ذلك التوجه يقتضي التركيز وبشكل محوري على أساسيات البناء وأدواته وتحسين جودة الأداء وإطلاق العنان لخاصيتي الإبداع والابتكار.
ما يجب أن ندركه في هذا المخاض العسير الذي تمر به اليمن أن الذات تشعر بفراغ وبفقدان حلقات مهمة في سلسلة التراكم التاريخي والامتداد الحضاري وترميم المتصدع وإعادة الحلقات المفقودة إلى سياقها الحقيقي يتطلب جهدا مضاعفا , فالذات التي تشعر بالفراغ الحضاري والفراغ التاريخي لا يمكنها التفاعل مع اللحظة الحضارية الجديدة لأنها تشعر بفقدان القيمة وتشعر بالاغتراب الحضاري والاغتراب التاريخي وبالتالي الاغتراب عن اللحظة الجديدة.
ومن هنا يمكننا القول: أن الاهتمام بالإنسان وصناعته وإعداده لمتطلبات المرحلة الحضارية الجديدة هو الرهان الأمثل الذي من خلاله تتجاوز عثراتنا التاريخية وعثراتنا الحضارية مع التأكيد على خياري التعدد والحوار فهما الوسيلة التدافعية التي من خلالها نضمن الاستقرار وندفع بهما غلواء الذات والفساد الذي يخامر السلطات في كل زمان وكل مكان.
ولو أمعنا النظر نجد توافقا تاما بين الكليات التي قال بها الفكر الاسلامي وبين الحاجات الفسيولوجية التي يقول بها العلم الحديث، ولذلك نجد في المجتمعات المتقدمة التي كانت تبني برامجها وسياساتها وأهدافها على تلبية تلك الحاجات واقعا مستقرا ومتطورا ومتقدما ومبتكرا تكاد تنعدم في تلك المجتمعات مؤشرات الفساد .
فالبناء يبدأ من تقوية المؤسسات القائمة, وبناء مؤسسات جديدة فاعلة وقادرة على البقاء والاكتفاء الذاتي وهو ما يعني أن بناء الدولة هو النقيض لتحجيم الدولة وتقليص قدراتها واستحداث بدائل عنها .
والسلام الاجتماعي يعتبر مطلبا ملحا تطمح لبلوغه كل المجتمعات البشرية بكل تكويناتها باعتباره ركيزة أساسية في نموها وتطورها.
ومفهوم بناء السلام يشير الى تحديد البنى ودعمها, في حين أن هذه البنى مهمتها ترسيخ وتفعيل السلام وتمكينه حتى نكفل عدم الانجرار الى صراعات جديدة, ومثل ذلك يتطلب نشوء ما يعرف بالدبلوماسية الوقائية, وأساس هذا المطلب تعاون عدة جهات للعمل كفريق وطني واحد بشكل دائم وواضح المعالم لحل الصعوبات والمعضلات التي تواجه الفرد او الجماعة سواء كانت تلك الصعوبات انسانية أم ثقافية أم اجتماعية او اقتصادية كون هذه المشكلات مجتمعة أو منفصلة هي السبب المباشر في الصراع والحروب.
والدولة المدنية هي تلك التي تنحصر مهامها في إتاحة امكانية الحصول على الحقوق والحريات العامة والخاصة لجميع المواطنين مقابل إنجاز وظائفهم المكلفين بها اتجاه بعضهم البعض واتجاه نظام الدولة العام .
ولتجنب نشوء الصراعات الطائفية والعرقية والقبلية تقتضي الضرورة القانونية والثقافية والسياسية إقامة دولة مدنية الاتجاه تتجاوز التعصب بكافة أنواعه؛ مرتكزة على دستور مدني يستوعب ثقافات الأطياف الاجتماعية كافة؛ ويوحدها تحت ظل مفهوم المواطنة وسلوكياتها النبيلة ولكون ذلك يمنع الثأرات ويحد من قيم الصراع وبواعثه ولعل رؤية مكون أنصار الله التي تقدم بها لمؤتمر الحوار الوطني كان اكثر وضوحا في ذلك من غيره بل كان متقدما على واقعه وعلى الاحزاب التقدمية التي لم تلحق به في زمن انعقاد المؤتمر.
والمهام الوطنية في المراحل التي تتسع فيها الهوة ويتعذر على الراقع رتق الخرق هي من أشد المهام تعذرا على التحقق, وأشدها صعوبة لكن بالفكر نستطيع توحيد جميع الجماعات على اختلاف مشاربها الفكرية والمذهبية, وحتى نتمكن من احداث متغير في الصورة النمطية التي تسيطر على اذهان الجماعات والفرق ضد بعضها البعض في اطار مشروعنا الاسلامي علينا أن نحدث قدراً من تفريغ الطاقات الانفعالية بما يخدم فكرة التوحيد لا الشتات وبما يعزز من قيمة الامة لا بما يضاعف من شتاتها ويعيق تقدمها ونهضتها، ولذلك من الحكمة أن ندير حوارا توافقيا يلبي مقاصد الاسلام، وفي السياق يذيب كتل الجليد بين الجماعات والفرق ويفتح بابا من التقارب والتوحيد في الطاقات حتى تكون عصية وصامدة في تقبل مشاريع الاستهداف التي تنال من الامة ومن وحدتها.