أخبار وتقارير

شواهدُ وحُجَجُ التنزيل .. على وجوب الإحتفال بالمولد الفضيل

شواهدُ وحُجَجُ التنزيل .. على وجوب الإحتفال بالمولد الفضيل

‏إني لأعجب ‏من المخالفين والموالفين، الذين يقولون إن هناك خلافاً بين علماء الأمة في حكم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، فمن قائل إنه مكروه، ومن قائل إنه بدعة، ومن قائل إنه مباح،

ومن قائل إنه مندوب ..إلخ،
‏وبعض ‏المجوزين للإحتفال يحاولون أن يثبتوا جواز الاحتفال، بالمولد بإشارات وقرائن استنبطوها من بعض الروايات؛ كي يردوا بها على الذين يطالبونهم بأدلة على جواز الإحتفال بالمولد النبوي .. واختلافهم هذا، حول حكم المولد النبوي، إن دلّ على شيء، فإنما يدل على قلة معرفتهم بحقيقة القرآن الكريم، فهم لم يسبروا غوره، ولم يدركوا كُنه مقاصده، ولم يعوا معانيه، ولم يفرقوا بين عمومياته وخصوصياته، ناهيك عن عدم معرفتهم بعَظَمة رسول الله -عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأزكى التسليم .
وإني لأخجل أن آتي بأدلة على جواز الإحتفالات بالمناسبة النبوية؛ لأن تعظيم النبي _ صلى الله عليه وعلى آله وسلم _ والفرح به لا يحتاج إلى دليل، فهو أظهر من الشمس، وأبين من الأمس،
‏فتعظيمه -صلى الله عليه وآله وسلم- يعد من الأمور المطلوبة شرعاً، لعموم الآيات التي أمرتنا بتعظيمه والفرح به، صلى الله عليه وآله وسلم ..
وإليك بيان ذلك :
‏لقد أمرنا الله تعالى بتعظيم النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وتوقيره والفرح به، قال تعالى :(لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)[الفتح : 9]
قال ابن عباس: "تعزروه تجلُّوه، وقال المبرِّد : تعزروه أي تبالغوا في تعظيمه"(1)
إذاً معنى تعزروه أي تعظموه مع إشهار تعظيمكم له.
وقال تعالى:(فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الأعراف :157].
فالمفلحون -كما في هذه الآية- هم الذين آمنوا به وأشهروا تعظيمهم له بكل مظاهر الإجلال والتعظيم، ونصروه واتبعوا نهجه القويم.
وقال تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ)[يونس :58].
ومعنى (بفضل الله): أي بنعمه المتواترة عليهم،
ومعنى (وبرحمته): أي المُهداة إليهم، وهو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لقوله تعالى:(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)[الأنبياء 107].
وجاء في الحديث: "إنما أنا رحمة مهداة"(2).
مما مرَّ سابقاً، تعلم أن الله تعالى أمرنا بتعظيم النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وإظهار هذا التعظيم، وأمرنا بالفرح به، وهذه الإحتفالات النبوية تدخل في هذه الأوامر العمومية ..
ولكي يتبين لك معنى ما ذكرته، لابد أن أعطيك مثالاً، ثم أردفه بتفصيل كلامي السابق، وإليك ذلك: إن الشارع الحكيم حث على الصدقة، وعلى إعانة الفقراء والمساكين، كما جاءت الآيات الكريمة  والأحاديث النبوية صادعة بذلك، ولكنه -أي الشارع- لم يخبرنا بالكيفية، ولا بالأسلوب في ذلك، بل تركها لاختيار المكلف لهذا المصداق أو ذاك، فبعض المكلفين يساعدون الفقراء بإيجاد فرص العمل لهم، والبعض الآخر يُعينونهم بصرف رواتب شهرية لهم، والبعض يعطونهم (الفلوس)، أو يساعدونهم بتوفير كل ما يحتاجون إليه من طعام وثياب وهكذا..

فكل ما فعله المكلفون من هذا الخير، وإن اختلفت مصاديقه، يؤجرون عليه؛ لأنهم امتثلوا الأمر الذي جاء على العموم، ولا يمكن أن نقول بأنهم ابتدعوا في الدين، وجاءوا ببدعة ضلالة لم يفعلها رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-  أو أحدثوا في الدين ما ليس منه !! لماذا ؟
لأنهم امتثلوا الأمر الذي جاء على العموم، وما فعلوه كله يدخل في عموم الآيات والأحاديث، التي تحث على الصدقة وإعانة الفقراء والمساكين، ولهذا قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ..».
وجاء هذا النص -في صحيح مسلم(3)- بعد خطبته -صلى الله عليه وآله وسلم-  التي حثهم فيها على الصدقة، وذلك لما رأى أولئك القوم "الحفاة العراة" ...، وذكر راوي الحديث أنه لما انتهى رسول الله "صلى الله عليه وآله" من خطبته، جاء رجل من الأنصار بصرَّة كادت كفه تعجز عنها .. ثم تتابع الناس بالعطايا، حتى رأيت كومين من طعام وثياب، فرأيت وجه رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-  يتهلل كأنه مُذهبة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- :«من سن في الإسلام ... الحديث».
وهكذا، كل من سَنَّ "أي أنشأ" طريقة حسنة، مثل ذلك الرجل الأنصاري، أو اتخذ طريقة مُثلى فيها نفع للناس، وتدخل في أي أمر عمومي من الشارع، فإنه يؤجر فاعلها وله أجر عاملها، ولاحِظ أن اللفظة جاءت نكرة -غير مَعرفة-(سنة)، وذلك لتشمل كل طريقة خيرية، سواء طريقة ذلك الرجل في أسلوبه في الصدقة، أو غيره في أي أمر كان (في الصدقة أو غيرها )، وسواء كانت حسية أو معنوية.
وكذلك حثنا الشارع على طاعة الوالدين، وعلى صلة الأرحام، ولم يبين الكيفية أو الأسلوب الذي ننتهجه في طاعة الوالدين وصلة الأرحام، وترك الأسلوب والكيفية لاختيار المُكَلَّف، فأي أسلوب أو كيفية، يقوم بها المكلف، تؤدي إلى رضا الوالدين، وإدخال السرور على الأرحام، فهو عين امتثال الأمر، الذي جاء على العموم، بطاعة الوالدين، وصلة الأرحام.
كذلك جاءت الآيات، تحثنا وتأمرنا بمحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والفرح به، وتعظيمه، وتوقيره، واحترامه، واتباعه، ولكن لم تأت كيفية مخصوصة، أو أسلوب محدد، يبين لنا كيفية تعظيمه صلى الله عليه وآله وسلم،  فبإمكان المكلف أن يختار ما شاء من المصاديق، التي تنطبق عليها تلك العناوين، ولا يكون ذلك بدعة، ولا إدخالاً لما ليس من الدين في الدين
نخلُص هنا إلى أن من مصاديق الدين، الإمتثال بأمر الله تعالى في كتابه الكريم، والتسليم لحكمة الأمر الإلهي بربطنا به وبدينه بمحبة رسوله، واتباعه وتعظيمه وتوقيره وتعزيره، حتى تلامس أرواحنا تلك المذاقات الرافلة في سماوات الوصلة والقربة، فتنفتح بصائرنا ببصيص من نور معرفته، وتنجلي أمامنا أكدار الجهل وظلمته، والتخلف عن معرفة حقيقته.. ولا أجلى من نشر البهجة بيوم مولده، بكل وسيلة، ومن هذه الوسائل الإحتفالات النبوية، التي تقام في الساحات، مع رفع الشعارات المحمدية، والرايات الأحمدية،  والهتاف بـ (لبيك يارسول الله)، وإظهار الفرح بالمولد النبوي بكل مظاهره، مع إلقاء الكلمات في هذه المناسبة، وكذلك المحاضرات والندوات.
وما تقوم به جميع الوسائل الإعلامية (مرئية، وسمعية، ومقروءة) وتسليطها الضوء على هذه المناسبة، إضافة إلى مايقوم به الصوفية في زواياهم وأربطتهم ومساجدهم، من الموالد المحمدية والمدائح المصطفوية ...،
فكل هذه الاحتفالات والموالد بأنواعها ومظاهرها، إنما تُعَدُّ من مصاديق الآيات، التي أمرتنا بالفرح برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتوقيره وإشهار تعظيمه، وكلها أيضاً تدخل في عموم تلك الآيات ..
فهي إذن من لب الدين، وفيها رضى الله ورضى سيد المرسلين صلى الله عليه وآله أجمعين..
هذا مع العلم أن ذكرى المولد الشريف تعد تذكيراً بأيام الله تعالى، قال تعالى:(وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ)[إبراهيم :5).
وأيام الله هي الأحداث، والوقائع العظام، والنعم الجسام، والمناسبات الفخام، وهل هناك حدث أعظم ونعمة أجسم من مولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟
لهذا صار لزاماً على الأمة، أن تتذكر هذه النعمة العظيمة، وذلك من خلال إحياء ذكراه، وغرس شمائله وسجاياه في القلوب والأرواح، وتأكيد هويتنا المتصلة بهويته، وإحياء سيرته قولاً وعملاً وأحوالاً، بالإحتفالات النبوية والندوات والمحاضرات المحمدية، التي تذكِّر المسلمين بهذا النبي العظيم والرسول الكريم، فيجددون ولائهم له وارتباطهم به ، وبهذا سيحصل لهم النصر والظفر والفوز بمقصود سيد البشر.
____
هوامش:
- (1) "الشفاء" [35/2] للقاضي عياض.
-(2) رواه الطبراني في " المعجم الصغير " [168/1] برقم (264) ، والبيهقي في " الدلائل " عن أبي هريرة [74/1] برقم (61).
- (3) « صحيح مسلم »: (3/86) برقم(2398).

أخبار الجبهات

وسيبقى نبض قلبي يمنيا
لن ترى الدنيا على أرضي وصيا