نشأة الجماعات الاسلامية (الجزء الثاني)
خلّف جمال الدين الأفغاني إرثا فكريا واسعا جعله يُعدّ بحق الأب الروحي لمختلف تيارات النهضة الحديثة إذ تجاوز تأثيره حدود الحركات الإسلامية ليشمل أيضا التيارات القومية واليسارية والوطنية التي وجدت في دعوته إلى التحرر والوحدة والعدالة مصدر إلهام لمشاريعها الفكرية والسياسية.
واللافت في تطور تلك التيارات الإسلامية أنها مع مرور الزمن، ابتعدت عن القيم التي دعا إليها الأفغاني من تسامح مذهبي وتحرر من الهيمنة الأجنبية، واتجهت في المقابل نحو التعصّب المذهبي والتكيف مع الاستعمار، متأثرة في ذلك بـ الحركة الوهابية التي أقامت تحالفا وثيقا مع بريطانيا.
وفي المقابل، بدأت التيارات القومية واليسارية والوطنية تبتعد تدريجيا عن فكرة شمولية الإسلام التي آمن بها الأفغاني، متأثرة بـ النظم الاشتراكية والديمقراطية الغربية التي تبنّت العلمانية أساسا لتنظيم الدولة والمجتمع, إلا انها مع ذلك حافظت على جوهر الفكرة التحررية في فكر الأفغاني، والمتمثّل في مقاومة الاستعمار والسعي إلى الاستقلال والسيادة الوطنية.
شكّل تأسيس حركة الإخوان المسلمين عام 1928م على يد حسن البناء منعطفاً تاريخياً حاسما في مسار الفكر والحركة الإسلامية، إذ مثّل نقطة تحول لا تزال الأمة العربية والإسلامية تعاني من تداعياتها حتى اليوم، وذلك للأسباب التالية:
أولًا: إن تبنّي حسن البنا للموروث الفكري والعقائدي لرشيد رضا "المتأثر في الأصل بأفكار ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب" جعل جماعة الإخوان المسلمين ومن تفرع عنها من حركات، في حالة صدام مستمرة مع المدارس الإسلامية التقليدية كـ الشيعة والأشاعرة والإباضية والمعتزلة، نتيجة للطابع الإقصائي والتكفيري الذي ورثته.
ثانيًا: إن تصالح جماعة الإخوان المسلمين مع الاستعمار البريطاني وضعها في حالة مواجهة دائمة مع التيارات القومية واليسارية والوطنية التي تمسكت بخيار الكفاح ضد الاستعمار ورفض التبعية للغرب. وقد شكّل هذا الموقف الثغرة التي تسللت منها بريطانيا ثم امريكا لتوظيف الجماعات الإسلامية لخدمة مصالحها، بدءًا بمحاربة العلمانية وانتهاءً بمحاربة الشيعة.
كان أول صدام مباشر بين جماعة الإخوان المسلمين وتلك التيارات الوطنية مع حزب الوفد الذي أسسه سعد زغلول عام 1918م، إذ مثل الوفد آنذاك التيار الوطني الليبرالي المناهض للاستعمار.
وقد تصاعد التوتر بين الطرفين تدريجيا حتى بلغ ذروته عام 1948م عندما اغتال التنظيم السري التابع للإخوان رئيس الوزراء محمود النقراشي، لترد الحكومة المصرية باغتيال حسن البنا مؤسس الجماعة عام 1949م، في مشهد مثل نهاية مرحلة وبداية أخرى من الصراع شمل اغلب الدول العربية.
ما بين ثورة أحمد عرابي عام 1881م وثورة سعد زغلول عام 1919م، كان المجتمع المصري بمختلف فئاته "سواء العلمانية منها أو المتدينة" يعيش حالة من الوحدة الوطنية والتلاحم في مواجهة الاحتلال البريطاني، باستثناء قلة من أصحاب المصالح والارتباطات الأجنبية. غير أن هذا التماسك بدأ يتفكك تدريجيا مع نشوء الجماعات الإسلامية، التي حوّلت الصراع ضد الاستعمار إلى صراعات داخلية بين أبناء الأمة الواحدة.
ثالثًا: إن الصرامة التنظيمية التي اعتمدها حسن البنّا، إلى جانب تعريفه الملتبس لجماعة الإخوان المسلمين بأنها «دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية»، جعلا من الجماعة كيانًا مغلقًا أشبه بمجتمع موازٍ داخل المجتمع العام، له مصالحه الخاصة وبنيته التنظيمية والفكرية والاقتصادية المستقلة. وقد أدّى هذا الانفصال البنيوي إلى دخولها في حالة صدامٍ مستمرٍّ ليس مع السلطة الحاكمة فحسب، بل أيضًا مع مكوّنات المجتمع الأخرى بمختلف تياراتها الفكرية والسياسية.
رابعًا: إن احتضان المملكة العربية السعودية لجماعة الإخوان المسلمين خلال فترة صراعها مع الأنظمة العربية ذات التوجّه القومي واليساري المعادي للغرب، أدّى إلى ابتعاد الجماعة عن السلفية الإصلاحية المعتدلة لرشيد رضا واقترابها اكثر من السلفية الوهابية المتشددة التي أسسها محمد بن عبد الوهاب.
وقد نتج عن هذا التداخل الفكري والتحالف السياسي ولادة تيارات أكثر تطرفا، مثل التيار السروري، والجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر، وحزب الاصلاح في اليمن وتنظيم القاعدة، وداعش، وبوكو حرام، وغيرها من التنظيمات التي تبنت العنف والتكفير وسيلة لتحقيق أهدافها السياسية والدينية.
إن لجوء الأنظمة العربية إلى القمع الشديد بوصفه الوسيلة الوحيدة للحد من انتشار الجماعات الإسلامية التي تسلّحت بـ المال الخليجي والدعم البريطاني والأمريكي، لم يؤدِّ إلى حل المشكلة بل إلى تعميق أزمة المجتمعات الإسلامية التي وجدت نفسها أسيرة معادلة تسلّط الحكام وتربص الاخوان.





